ناقصات عقل ودين
منذ نعومة أظافري وأنا أجد تكريم المرأة في كل تفاصيل هذا الدين العظيم , أقبل على مضامينه بعقلي وروحي فلا أجد ثمة أية إهانة بل كلما نهلت من معينه ازددت قوة إلى قوتي وشعرت بتوافق نفسي واجتماعي منقطع النظير , أحس أن هذا الدين يضطرني إلى حيث تكتمل شخصيتي كأنثى .. هكذا أشعر وهكذا أحس حتى انتبهت إلى كلام يقوض هذه المعاني ويرمي بكل سطحية هذا الدين بهضم حق المرأة و إبعادها عن إنسانيتها .
” المرأة ناقصة عقل ودين ” يأخذها المغرض يلوح بها في كل ناد أن اعلموا أن هذا الدين قد ظلم المرأة وسلبها بشريتها ..
أيعقل أن يكون الملاذ الذي لطالما اطمأننت إليه كلما ضاقت بي الحياة مصدر إهانة لي ؟ !
أيعقل أن يكون الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يقول عني “استوصوا بالنساء خيراً ” هو من يحط من قدري ؟ !
فهل نقصان العقل والدين الذي ورد على لسان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو المعنى السطحي الذي يسوقه المغرض والجاهل بدينه ؟
أزعم أن الجواب عن هذا يتطلب تجردا من السذاجة وخضوعا لقواعد البحث السليم لذلك سينتظم كلامي في ثلاث نقاط :
النقطة الأولـى – صحة الحديث :
الخوض في صحة الحديث وضعفه يتطلب التطرق إلى المغالطات المنهجية لدى الطاعنين فيه والكلام فيها سيطول بحيث يبعدنا عن القضية المحورية لهذا المقال وهي : هل المرأة فعلا ناقصة عقل ودين بمعنى السفه ؟
روي هذا الحديث من أكثر من طريق وهو صحيح متنا وسندا لا خلاف في ذلك وأشهر طرقه هي :
الطريق الأول : رواه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : ” خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ»، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا،أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» ” .
ورواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ،وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: ” أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ: فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ مَا تُصَلِّي، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ.”
وأما الطعون التي وجهت نحو الحديث من حيث الإسناد فلا يلتفت إليها إذ هي مجرد توهمات ذهنية تقعد عن مجابهة حكم أهل التخصص الذين قضوا بصحة الحديث .
ومما يدل على تهافت طعونهم أنهم قد تذرعوا إلى تضعيف الحديث بتردد الصحابي أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال : ” في أضحى أو فطر ” ، والصحيح أن الحديث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبة عيد ، وهذا ما نقل عنه في جميع الروايات وبهذا لا يمكننا أن نطعن في صحة الحديث لمجرد أنه لم يحدد أهو عيد الأضحى أم عيد الفطر ؟ وقد قال الصحابي ذلك خوفا من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويتلاشى هذا التوهم إذا أدركنا أن الحديث لم يتفرد بروايته أبو سعيد الخدري رضي الله عنه بل رواه غيره من الصحابة .
النقطة الثانية – معنى نقصان العقل :
أزعم أن مشكلة الطاعنين في الإسلام هي القراءة الاختزالية لبعض مضامينه , وهذه القراءة قد ألقت بظلالها على هذه القضية إذ أنهم فهموا الحديث بعيدا عن سياقه ودون نظر للقرائن التي تأخذك إلى تعقل معناه .
كيف إذن يمكننا قراءة الحديث ؟
يجب أن يعلم أن شرح هذا الحديث وسبب قوله لا ينفك عن ذكر آية الدّين (الاستشهاد) وهذا الكلام ليس مجرد تخرص بل هو تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الحديث : ” أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ: فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ ” أي أن نقصان العقل عند المرأة إنما يتعلق بأمر الاستشهاد عند الدّين ، قال الله عزوجل : { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } |سورة البقرة-282| ، فليس المراد إذن سفه المرأة و لذلك لما أشكل هذا الأمر على الصحابيات لم يترددن في الاستفسار , فلما أعرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنىنقصان العقل انتفى الإشكال لديهن , إذ أن نقصان العقل باعتبار نقصان شهادتها في مجال البيوع ليس بمشكل لديهن فالمرأة لم تكن تتعاطى التجارة مثل تعاطي الرجل بحيث يمكنها استحضار تفاصيل العقود والانتباه إلى دقائقها كما يفعل الرجل . فالمعلوم أن المرء لا يضبط الأمور التي لا يهتم بهاأو لا يشتغل بها ، فالمعاملات المالية والمعاوضات وغيرها ليست من شأن المرأة عادة ، فيصعب عليها حفظها وضبطها ، ليس كغيرها من الأعمال المنزلية مثلا أو كل ما يخص المرأة فإنك تجدها أقوى ذاكرة من الرجل ، وهذا طبع يشملهما معاّ ذكراناً وإناثا .
فالنقص إذن ليس في القدرات الفكرية كما يدعى البعض ، بل هو نقص في الضبط فقط لأجل عدم الاهتمام إذ المعلوم أن الاستحضار الذهني لابد فيه من الانتباه , لذلك لو كان الرجل غير مهتم بأمر البيوع والتجارة فسيكون ضبطه لتفاصيل العقود ضعيفا وهذا أمر طبيعي ، ثم إن الآية جاءت مخاطبة صاحب الدّين لبيان حكم توثيقه لعقد من العقود المالية ليحافظ على دينه ،أي أنها ليست عن ( الشهـادة) التي يعتمد عليها القاضي في حكمه بين المتنازعين ، ومن هنا فإن هذا الحكم لا يضع معيارا عاماً لشهادة المرأة ،فالشهادة لها معايير أخرى يطمئن لها القاضي تحقق صدق الشهادة وهي ثلاث أوصاف معتبرة عند الفقهاء : العدالة ، نفي التهمة أي ألا يكون بينه وبين المشهود عليه أي خصومة ، التيقظ أي أن يكون ضابطا لما شهد به ،وهذه الأوصاف لا تفرق بين ذكر ولا أنثى .
ولمزيد بيان فإن مجمل الشهادات تتساوى فيها شهادة المرأة مع الرجل ، بل وتتساوى معه في شهادات لا دخل لها بالعاطفة التي تعرف بها المرأة غالباأو قلة الخبرة بل الذي يهم فيها هو الذكاء والحفظ ، ومثال ذلك المسائل الدينية ، حيث تقبل رواية المرأة للحديث كالرجل تماما ، وكذلك غيره من العلوم . بل وتقبل شهادة المرأة منفردة ، وذلك في المسائل التي لا تجوز فيها إلاّ شهادة النساء ، كالولادة و الرضاعة وعيوب النساء وغيره .
ثم
ثم نعود ونقول أن قوله صلى الله عليه وسلم ليس فيه احتقار للمرأة بل هوتعجب من قدرتها في التغلب على الرجل الذكي جدا وإشارة إلى قوة تأثيرها .
النقطة الثالثة – معنى نقصان الدين :
أما نقصان الدين فقد بينه عليه الصلاة والسلام في قوله: ” أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: «فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» ” فنقصان الدين من نقصان العبادة ، حيث أن لفظ الدين قد يطلق على العبادات كالصوم والصلاة وغيرها … ، وليس القصد كما يفهمه البعض نقصان الدين بالكلية ، بل هو كما شرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يتعلق بصومها وصلاتها حال الحيض ، وهذا لا تعاب به المرأة أو تأثم عليه ،بل هي مكلفة بذلك كما ذكر العلماء ( انظر شرح النووي على مسلم 2/255رقم : 238 ) فليس المقصود إذن المعنى المشاع بين الناس بل هو تشريع من الله عزوجل تخفيفا ورفقا بها ، فمن رحمته سبحانه أن كلفها بعدم الصلاة حال الحيض لأن الطهارة شرط في الصلاة وهي غير طاهرة ، وكلفها بعدم القضاء لأن في قضاءها مشقة عليها ، فالصلاة تكرر في اليوم خمس مراتوالحيض قد تطول مدته ، فأسقط عنها سبحانه الصلاة أداء وقضاء .
وكما ذكرنا فهذا النقص لا يعتبر عيبا في المرأة ، فمن النساء الصالحات من فاقت الرجال في أشياء كثيرة ، كما قال أحد العلماء رحمه الله : ” وقد تكثر منها الأعمال الصالحات فتربو على كثير من الرجال في عملها الصالح وفي تقواها لله عز وجل وفي منزلتها في الآخرة ”
ولنا في التاريخ الإسلامي ما يثبت ذلك ، من نساء عالمات فقيهات صالحات معروفات برجاحة العقل و التفقه في الدين كأمنا عائشة رضي الله عنها ،فهي كانت أفقه نساء عصرها ، ولو كان الحديث يراد به سلب الأهلية العقلية عن المرأة لوجدنا أثر هذا المعنى على التصور الإسلامي بحيث تغيب المرأة مطلقا عن ميادين الفكر والمعرفة وهو الأمر الذي نجد عكسه في كتب التراث الإسلامي ، فلا يخفى على ناظر في تراجم العلماء ذكر تتلمذ أساطين الفقه والحديث على نساء عالمات فاضلات.
ونخلص إلى أن الإسلام كرّم المرأة وجعلها كالرجل في الإنسانية ، قال تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } ، وفي التشريع ، قال سبحانه وتعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } وقال أيضا : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } ،وهذا كما قدّره الله تعالى انطلاقا من مبدأ العدل ، وليس مبدأ المساواة ،فكما قال الدكتور سعد العتيبي في مقالاته في التقعيد لمكانة المرأة في الإسلام : ” المساواة في غير مكانها ظلم يرفع ، وليس مزية تطلب ” ،والإسلام لا يهين المرأة ولا يحتقرها بل رفع مكانتها وأعلاها ، وهذا ما يفهم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد نبه النساء وأرشدهن إلى ما فيه خير لهن ، وقد فهمن قصده وتدافعن بالصدقات ذلك اليوم ، لحرصهن على الثواب و حسن فهمهن لحديثه صلى الله عليه وسلم . فيالعظمة التشريع الإسلامي وسبحان الذي خلق الذكر والأنثى و جعل لكل واحد منهما ما يصلح لهما .
{ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير }