هل نُهِيَ الصحابة عن تدوين السنة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
من المعلوم لدى كل دارس لتاريخ تدوين السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بداية عن كتابة الحديث النبوي الشريف، وأصح ما ورد في ذلك ما رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار).
وقد سلك العلماء في التوفيق بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى المبيحة للكتابة مسالك منها:
- النهي منسوخ بأحاديث الإباحة خاصة حديث أبي شاه في فتح مكة.
- النهي معلل بخوف النبي صلى الله عليه وسلم من اختلاط القرآن بغيره، خاصة في بداية الإسلام إذ من الوارد أن يوجد من المسلمين الجدد من لا يميز بين القرآن وغيره.
- النهي خاص بكتابة القرآن والحديث في صحيفة واحدة، مخافة الاختلاط والاشتباه.
- النهي منصرف لضبط السنة وحفظها في الصدور وترك الاتكال على الكتابة.
- النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ والإذن لمن أمن منه ذلك.
وفي الحقيقة كلها مسالك جارية على سنن العلماء في الجمع بين النصوص حتى لا يضرب بعضها ببعض، غير أن القول الذي علل بخشية الاختلاط أسال لعاب المصطادين في الماء العكر من أبواق الاستشراق في بلاد المسلمين، فقالوا إنكم بهذا القول تقرون بأن القرآن لا يعدو أن يكون كلاما بشريا فاقدا لأي صفة بلاغية أو إعجازية تميزه عن غيره، وإلا كيف يخشى عليه من الاختلاط والاشتباه؟!
والجواب على هذا أن العلماء حينما قالوا بإمكانية الاختلاط ليس ذلك لأسباب ذاتية أو موضوعية راجعة لكلام الله تعالى، ولا حتى لكاتب الصحيفة، بل لأسباب وملابسات متعلقة بقارئها، لضعف فيه أو عجمة أو وهم أو سهو أو نسيان أو تعظيم لكلام الله فيحجم عن إعمال رأيه فيما كتب، وربما تتقادم الصحيفة فتقع في يد من لا يحسن التمييز ونحو ذلك، وقد يكون الاختلاط بمقدار لا يخرج كلام الله سبحانه عن مجمل أوصافه خاصة إن كان ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي آتاه الله تعالى جوامع الكلم، فيكون ذلك تقولا على الله سبحانه ولو بغير قصد.
ولا أريد أن أطيل في بيان المعنى الذي افترضه العلماء في جمعهم بين هذه الأحاديث.
فقد لاح لي ملمح لطيف في فهم حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أعتقد أنه جدير باستحضاره في مثل هذه المطارحات العلمية، وهو أن النهي مرتبط بفترة زمنية محددة وهي المرحلة المكية أو على الأقل الفترة الأولى من المرحلة المكية حيث لم يكن الحديث النبوي بتلك المنزلة المهمة في التشريع، بل كان القرآن هو المهيمن على المشهد الدعوي حينها، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج عن موضوعات القرآن من توحيد وتقرير للبعث والنشور وإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل والرسالات والقضاء والقدر، ودعوة لذكر الله تعالى وترك الأوثان والفواحش ومساوئ الأخلاق… فلم يكن الحديث النبوي ينفرد بشيء مما في القرآن، فتكون كتابته مجرد انشغال بالمفضول عن الفاضل، وبالفرع عن الأصل، لذلك أولى النبي صلى الله عليه وسلم أهمية قصوى للقرآن الكريم ضبطا وإتقانا بأخذه مشافهة وكتابة، واكتفى بالترخيص في التحديث عنه دون الكتابة تقريرا لهيمنة القرآن وكفايته.
ولما ارتوت قلوب المسلمين بالقرآن إيمانا وأخلاقا ودخلت مرحلة التشريع مع نهاية المرحلة المكية صارت السنة النبوية بمنزلة رفيعة في التشريع، وصار الناس بحاجة إليها كحاجتهم إلى القرآن، وذلك حينما فرض الله سبحانه مجموعة من التكاليف والأحكام العملية التفصيلية كالصلاة والزكاة والصيام والحج والزواج والطلاق والفرائض ومختلف الأحكام التي جاء بها الوحي إجمالا، فعني النبي صلى الله عليه وسلم ببيان مستغلقها وتفصيل مجملها وتوضيح مشكلها، فانتقلت السنة النبوية من وظيفة البلاغ إلى وظيفة البلاغ والبيان بل والتشريع، قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.
ففي هذه المرحلة أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بكتابة السنة، وإلا فلا يتصور أن يخالف الصحابة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يأذن لهم، بل ورد في حديث عبد الله بن عمرو وأبي شاه أمره صلى الله عليه وسلم بالكتابة وذلك زمن التشريع.
فأرى – والله أعلم – أن استحضار هذا التفصيل يعين في فهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة السنة في بداية الدعوة، وهو في نفس الوقت لا يلغي ولا يشوش بشيء على تقريرات السادة العلماء، بل هو منسجم معها مستوحى من أجوبتهم.
نسأل الله التوفيق والسداد وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.