منهج الميزان
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلاة وسلاما على المبعوث هدى للعالمين، أما بعد، فهذه كلمة أتوخى من خلالها توضيح بعض المفاهيم، فكثيرا ما نغفُل عن أساسيات وقواعد إن ضبطت وأحكمت، أمكن تجلية بعض الأحكام والمواقف في عديد من القضايا.
إن الله أنزل كتابه تبيانا لكل شيء فقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ}، والبيان يكون بتجلية الأمر المبيَّن وبتمييزه عن غيره، فقد بين الله تعالى كل شيء فيما يخص العقائد والعبادات بيانا مفصلا عبر كتابه وعبر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ليهلِك من هلَك عن بينة ويحيى من حَيِيَ عن بينة.
وأمرنا عز وجل باتباع تعاليمه، وندبنا إلى عدم اتباع ما يأتي من غيره، إما استقلالا وإما توفيقا بينه وبين ما هو من عند الله، فقال عز من قائل: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ}، وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} الآيات، فمن رام التوفيق بين اتباع حكم الله وحكم غيره فهو مشمول بالآية، ومن اتبع ما أنزل الله واتبع معه غيره فقد أشرك مع الله غيره فيما لا يجوز أن يكون إلا له، وهو الاتباع والتلقي والتحاكم، وقال: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}، فنهى عن اتباع أهواء غيره، وكل ما خالف الحق الذي أنزل فهو من اتباع الهوى، كما قال: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}.
وقال تعالى في مطلع سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فأمر تعالى بعدم التقدم بين يدي أحكامه وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم، بل أخبر أن رفع الصوت عند رسوله صلى الله عليه وسلم من أسباب إحباط العمل، فما بالك بتقديم الآراء والأحكام والهدي؟! فهو أولى بإحباطها.
وتجريد الاتباع يكون في باب العقائد والشرائع، كما جاء في الحديث من زجر النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه حينما رأى في يده صحيفة من التوراة، فقال (لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي)، أي أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة يغني عما في الصحيفة وعما في غيرها في هذه الأبواب، أما ما كان من أمر الدنيا فهو باب آخر كما أخبر به عليه الصلاة والسلام حيث قال: (إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به).
وأمر تعالى بتحكيمه وبالتحاكم إليه في شأننا كله، فقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، أي في كل شيء.
بل قد نفى الإيمان ووصم بالكفر والظلم والفسوق من لم يحكم ما أنزل الله في أمره، فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وقال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، في أخرى {الظَّالِمُونَ} وفي أخرى {الْفَاسِقُونَ}.
وبعد هذا كله فقد أخبر أن اتباع غيره في بعض الشيء من أسباب العذاب والشقاء والخذلان في الحياة الأولى والأخرى، فقال: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}، فإذا كان هذا الوعيد لخير أنبيائه فما بالك بغيره؟!
فكتاب الله هو الفرقان الذي أنزل الله على عبده ورسوله ليفرق به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الغي والرشاد، وقد تكفل لمن اتبعه بأن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، فقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ}.
ومع الكتاب تأتي السنة المطهرة المبينة، سنة من أنزل عليه القرآن وأمر بتبيينه للناس، سنة من أمرنا بإطاعته والأخذ بما آتاه، فقال تعالى في كتابه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، سنة من قال فيه ربنا: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، سنة من حذرنا تعالى من مخالفة أمره فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، سنة من هو مسدد بالوحي فلا ينطق عن الهوى، فإن اجتهد اجتهادا خالف مراد الله أتى الوحي مبينا ومصححا كما في وقائع أسرى بدر واستئذان الأعمى في التخلف عن الجماعة وغيرها من الوقائع.
فواجب المؤمن إزاء كل العقائد والآراء والأعمال أن يحاكمها إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يزنها بهما، فما وافقهما أخذ به، وما خالفهما رده، وما سكتا عنه فله أحوال، فإن كان من باب الوسائل لفعل مأمور به أو مندوب إليه أو ترك محظور أو مكروه فقد يأخذ حكم غايته على تفصيل ليس هذا موضعه، وإن كان اعتقادا فليس واجبا اعتقاده، إلا أن يكون من المعاني الجزئية التي تأتي تفسيرا وتبعا لنص من النصوص والتي غالبا ما تكون النصوص تدل عليها عبر مسلك من مسالك الدلالة إما التضمنية أو التلازمية، وهذا لا تجده في أصول عقائد الملة أبدا، فهذه الأصول تجدها كلها مفصلة مبينة بيانا شافيا في كتاب الله ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا المأخذ يرد على الشيعة في باب الإمامة، حيث لا تجد هذا الباب الذي هو من أصول الدين عندهم، مذكورا ولا حتى مشارا إليه في كتاب الله، إلا ما كان من حمل بعض الآيات على بعض المعاني البعيدة المستكرهة، كمثل زعمهم أن التبليغ المشار إليه في سورة المائدة في آية {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}، إنما هو تبليغ ولاية علي، وغيرها من الأقوال التي هي بالألغاز واللعب بالنصوص واللغة أشبه منها بالحجج والاستدلال، وهذا الذي اضطرهم إلى الادعاء أن كتاب الله ينقصه أجزاء ليست إلا عند أهل البيت بزعمهم، حيث طالبهم المسلمون بأن يأتوا بآي من الكتاب تعضد ما ذهبوا إليه فتحيروا ولم يجدوا ردا.
وأقل منهم جرما لكن أشد خطرا، من يضع عقائد يزعمها عقلية قطعية لا يكمل الإيمان ولا يصح إلا بها بل هي أصل الإسلام عندهم، وتكون هذه المقولات قد أغفلها الكتاب إغفالا تاما، كمن يزعم أن الإيمان لا يتم إلا عبر تنزيه الله عن قيام الصفات الفعلية به كالمجيء والاستواء والكلام وغيرها من الصفات التي تدل أنه تعالى فعل شيئا بعد أن لم يكن فاعله، ثم يذهبون يستدلون من الكتاب بمثل آية: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}، فيفسرونها بـ”لا أحب المتغيرين”، وما أبعد هذا الاستدلال عن الصواب رغم تواطؤ العديد من الأعلام عليه، حيث الأفول هو الاضمحلال والغياب والتستر، ولو كان كما يذهبون لما انتظر الخليل من بزوغ الشمس إلى غروبها كي يقرر القوم بتغير مواضع الشمس، وبالتالي عدم ألوهيتها لأنها فعلت شيئا بعد أن لم تكن فاعلته، فانظر رعاك الله ما أبعد هذا الاستدلال عن الفطرة وما أبعد هذا الأصل عن نصوص الكتاب والسنة، حيث يقول تعالى عن نفسه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ}، فقد استوى بعد أن لم يكن مستويا، وقال: {وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، فقد ناداه بعد أن لم يكن مناديه، وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}، فقد كلمه بعد أن لم يكن مكلمه، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}، وقال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}، فقد أراد بعد أن لم يكن مريدا، وغيرها من عشرات الآيات البينات المحكمات التي لا يعجز أصحاب المذهب سالف الذكر أن يتأولوها إما بتحميل اللغة ما لا تحتمل من كون الكلام لا يسمع ولا يكتب أو بتحميل العقول ما لا تحتمل ككون الإرادة تكون في الأزل والرضى يكون في الأزل، وأن الله لم يزل يريد كل ما وقع في الكون أو سيقع، أو أنه لم يزل راضيا عن كل كافر حال كفره إن علم أنه سيتوب وسيموت على الإسلام، وأنه لم يرض عن المؤمنين إذ بايعوا تحت الشجرة فحسب، بل لم يزل راضيا عنهم حتى لما كانوا كفارا، إلى غير ذلك من الإلزامات التي إن تدبرها العاقل علم بطلان ذلك الأصل ومصادمته لما جاء من عند الله بالضرورة.
وهذا الأصل المهم، أي وزن الأقوال والأعمال بميزان الشرع وعرضها على نصوص الوحي عموما وتفصيلا، رغم بساطته ورغم كونه معلوما عند عامة المسلمين بل هو أساس دينهم، فكثيرا ما لا يعطيه حقه منتسبو مدارس السلوك أو العقائد أو الفقه، فتجدهم في عديد من المسائل يغفلون عن عرض آراءهم ومذاهبهم أو أعمالهم على هذا الميزان، اكتفاء بما لدى متبوعيهم من المكانة والمنزلة، التي مهما علت، لم يجز أن يقدموا بين يدي الله ورسوله. أخرج مسلم عن ابن مسعود مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر…)، فساق الحديث الذي جاء في آخره أن الكبر هو بَطَرُ الحقِّ (أي رَدُّه) وغَمْطُ الناسِ، أي أن كل من ترك بعض الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعا لشيخه أو طريقته أو مذهبه أو مدرسته فله نصيب من هذا الحديث، على أنه لا يخفى أن كل من خالف الشرع في جزئية ما إنما فعله بتأويل، إما لأن شيخه أعلم وقد علم ما لم يعلم، أو جمعا بين العقل والنقل أو أن الحقيقة مقدمة على الشريعة أو غيرها الكثير من هذه الحجج التي إن وزنت هي الأخرى بميزان الشرع بان ضعفها، وسنرى في آخر المقال أن ليس كل صاحب تأويل معذورا شرعا.
أخرج البخاري عن ابن زياد الأسدي قال: (لما سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث علي عمار بن ياسر وحسن بن علي فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبر فكان الحسن بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمار أسفل من الحسن فاجتمعنا إليه فسمعت عمارا يقول إن عائشة قد سارت إلى البصرة ووالله إنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي)، وهذا الحديث عبرة لكل تابع وكل منتسب لمدرسة أو فرقة أو مذهب، أكتاب الله وسنة نبيه يتبع ويطيع أم غيرها في كل مسألة مسألة، وليعلم أن الهوى خفي وحبك للشيء يعمي ويصم.
وهذا الميزان الرباني القسط هو من أجلّ نعم الله على المسلمين، فقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ}.
وما يزال المسلم يرتقي في سلم المعرفة والعمل درجة درجة، اتباعا لمحاب الله واجتنابا لمساخطه، طلبا للسداد من مولاه وخالقه، واتهاما للنفس من الهوى، وخوفا من السقط والزلل، حتى يصير القرآن فرقانا وميزانا لكل شيء، كما قال تعالى: {إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}، أي ميزانا يزن به الأعمال والأقوال والعقائد، فبالله يبصر وبه يسمع وبه يمشي وبه يبطش، لا يحب إلا ما يحب ولا يبغض إلا ما يبغض، وكما جاء في الحديث: (من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)، وكلما كان العبد المسلم لله أطوع وبالله أعرف، كلما كان حظه من هذا الميزان أعظم.
والقرآن رغم كونه هدى ونورا وبيانا، فإنه لا ينتفع به إلا من سلك سبل الهدى من تعلم للعلم، وصبر على شدته، وإخلاص لله النية، وخوف من اتباع الهوى الخفي الذي كثيرا ما يري صاحبه الحجة الواهية المرجوحة كأنها برهان قاطع، وكل هذا مع شدة الالتجاء إلى الله والتضرع إليه ليهديه لما اختلف فيه من الحق اقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم حيث روت الصِّدِّيقة كما في صحيح مسلم أن من دعائه صلى الله عليه وسلم إذا قام ليصلي من الليل: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
ومهما بلغ المؤمن من العلم والمعرفة والتقوى فهو عرضة للخطأ والزلل، فالعصمة للميزان لا للوازن. وكون القرآن والسنة ميزانا يستلزم أن يكونا متبوعين لا تابعين كما أراد لهما من رام تحميل ألفاظهما من المعانى ما يلائم مقالته، أو كمن أراد له أن يكون تابعا لأهواء كل عصر، مما يلزم بعض أصحاب الدعوات التجديدية والحداثية شعروا أم لم يشعروا.
أختم بضرب مثال للميزان الرباني وكيف قد يزل فيه من لم يؤته حقه.
عاهد أحمد بن أبي الحواري أبا سليمان الداراني ألا يغضبه ولا يخالفه، فجاءه يوما وهو يحدث الناس فقال: يا سيدي! هذا قد سجروا التنور فماذا تأمر؟ فلم يرد عليه أبو سليمان لشغله بالناس، ثم أعادها أحمد ثانية، وقال له في الثالثة: اذهب فاقعد فيه، ثم اشتغل أبو سليمان في حديث الناس ثم استفاق فقال لمن حضره: إني قلت لأحمد اذهب فاقعد في التنور، وإني أحسب أن يكون قد فعل ذلك فقوموا بنا إليه، فذهبوا فوجدوه جالسا في التنور، ولم يحترق منه شيء ولا شعرة واحدة.
هذه الحكاية مشهورة عند طوائف الصوفية، أخرجها صاحب الرسالة وغيره، ومما يستنبط منها، تعظيم المشايخ، وطاعتهم المطلقة، وعدم الاعتراض عليهم، وحفظ الله لمن التزم ذلك وحسن عاقبته وغير ذلك مما قد يستدل بها عليه.
لكن أي كفة سترجح إذا وزنا هذه الحكاية بميزان الشرع، كفة تأييدها وتأييد ما جاءت به أم عكس ذلك؟
أخرج البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فاستعمل رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف).
فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا جهادا في سبيل الله، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم: (من أطاع أميري فقد أطاعني)، وقد عرضت لهم شبهة طاعة أميرهم كما أمروا، طاعة مطلقة، فكادوا يقحمون أنفسهم في النار طاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم في اعتقادهم وطمعا في رضا ربهم، رغم ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دخلوها ما خرجوا منها)، ولم يعذرهم كونهم عمموا أمره صلى الله عليه وسلم دون مراعاة النصوص الأخرى التي تأمر بعدم الإلقاء باليد إلى التهلكة وألا نقتل أنفسنا.
إذا قارنا غضب أبي سليمان الداراني بغضب عبد الله بن حذافة، الصحابي الأمير في الحديث المذكور، ثم أمر كل واحد منهما مخاطبه باقتحام النار، علمنا أن الواقعتين متشابهتان ومتطابقتان للغاية، لكن الحكم مختلف في كل واقعة عن الأخرى، هذا رغم فضل الصحابة وعلو كعبهم، فلم يعذروا في هذا الباب ولو فعلوا ما قبل اجتهادهم.
فمن المقارنة السابقة ومن مصادمة حكم واقعة قصة الداراني مع تلميذه لحكم رسول الله في أصحاب ابن حذافة في الحديث، نعلم أن قصة أحمد بن أبي الحواري مع أبي سليمان الداراني مختلقة مكذوبة مردودة، وأن أحمد لو دخل النار ما خرج منها وأنما الطاعة في المعروف، فليس كل أمر يطاع، وليس كل خطأ مغفور، بل يجب بذل الوسع في الاجتهاد والجهد بحثا عن حكم الله في كل مسألة ولو جزئية، داخل الوحي لمن كان أهلا لذلك، أو بتحري ذي العلم والورع لغيرهم.
فهذا مثال من أمثلة استعمال ميزان الكتاب والسنة في الحكم ومن أمثلة ما قد ينتقد على بعض أحكام الصوفية، الصوفية التي ما امتدحت إلا لما دعت إليه مما وافق طاعة الله ورسوله وما ذمت إلا لما خالفت فيه ما أمرنا الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من مثل الأحكام المستنبطة في الحكاية المذكورة، والحمد لله أولا وآخرا.