تصريح ماكرون وأزمة التفكير
»L’islam est une religion qui vit une crise aujourd’hui, partout dans le monde«.
Le président français, Emmanuel MACRON.
«الإسلام دينٌ يعيش أزمةً اليومَ، في كلِّ مكان في العالم. »
الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون.
ما مِن شك أنّ صدَى تصريح الرئيس الفرنسي بلغ مَبلغ التصريح عينِه، فهاج كثيرٌ من الناس في النقاش وماجوا، كلٌّ بحسب ما له مِن رصيد معرفي وأدواتٍ منهجية وما يوجد خلفَه مِن دوافعَ واعتباراتٍ، لكن، ما قيمة هذا التصريح؟ وعن أي إسلام يتحدث قائلُه؟ وأي أزمة يقصد؟ وما قيمة الاعتراضات عليه في ميزان العقل؟
أولا، وقبل النظر في التصريح وما خلَّفَه مِن ردود، لا بد أن أعبّر عن أمرين أعتقدهما باعتباري شخصا مسلما يعلم عداءَ فرنسا إديولوجيّا للإسلام، أولهما موقفي الإجمالي من مضمون التصريح، وثانيهما، ما أفدتُه مما تراءى لي من مَرامٍ تتوارى خلفَ ألفاظ التصريح.
بعيدا عن الانبطاح والاندفاع، فموقفي هو بجلاء، موقفٌ رافضٌ شاجب لهذا التصريح، بل يمكن وصفه -بِلُغة العصر- بالتصريح المتطرف باعتبار مآلِه، لأنه تصريحٌ أُلقيَ به في مقامٍ عامٍّ غيرِ خاضعٍ الكلامُ فيه لمبدإ مراعاة اختلافِ أحوالِ المخاطَبِين، الذين مِنْ بينهم مَن لا يميّز بين ردة الفعل الدينية المشروعة الخاضعة لحكم الشارع وحدَه، وبين ردة الفعل النفسية التي تخضع باستمرار لنزعات غير منضبطة، وتتفاوت بين شخص وآخر، أو تخضع لدافع العداء بين الأنا والآخر دونما أدنى مراعاة للحق حيث هو، وما يُدرِكُ هذه الفروقَ إلا قليلٌ، وخير مثال على هذا، ما حصل من ردود فعل عنيفة تجاه ما نشرته صحيفة شارلي إيبدو، وذلك بعد نشرها لصور استفزت المسلمين هنالك فكان ما كان.
وتبعا لِما سبق، أضيف، أنه رغم الوصف السابق المتعلق بالأثر، فإنه لا يمكنني بحالٍ من الأحوال أن أقول إنّ هذا التصريحَ مقصودٌ به إثارةُ حمية الناس واستفزازُهم قصدا منسوبا لقائله، لأن هذا الزعم يُعوِزه الدليل، وهذا ما يقتضيه الإنصاف، إذ إنَّ «مَن لا يُنصف لا يفهم ولا يتفهم»كما يقول ابن عبد البر [1]، وإنما ذكرت ما يمكن أن يترتب عليه بتجريد النسبة، وإن توقفتُ في الخوض في النيّات، فإنه لا يمكن تجاهل الآثار المحتمَلة لهذا التصريح، لأنه قد يقوم مَن لا يميّز بين الفعل المشروع والانفعال المذموم، فيُقدِم على ردة فعل عنيفة دون إذن وليٍّ ولا مَشورة عالـِم، فيُلصَقَ فعلُه بالإسلام والمسلمين بتعميمٍ مغالطٍ، وكم مرةً حدثَ مثلُ هذا!
أما الأمر الثاني، فهو أن هذا التصريح قد كشف جوانبَ إيجابيةً يجب أن نعتبر بها، وهو أن حقيقة الإسلام على خلاف ما يُفهم ظاهرا من كلام المصرِّح، إذ الإسلام في توسع مستمر، ولو لم يكن كذلك، لم يكن الرئيس الفرنسي ليدَع مشاكل بلده ويتحدث عن الإسلام، بل ما تحدث عنه إلا لِـمَا نرى ونسمع من انتشار الإسلام وتكاثر المسلمين، الأمر الذي جعل الرئيس الفرنسي كحال التاجر الذي حين يُهدَّدُ تمكُّنُه الاقتصاديُّ بتصاعد أسهمِ منافسِه يشرعُ في الانتقاص من خصمه للحط من حظوته في النفوس، وهذا ما يوضحه الرئيس نفسُه في تتمة تصريحه، حين ادعى -بدون إثباتٍ- رغبةَ المسلمين في السيطرة الكلية على فرنسا وإرساء قواعدهم وقيمهم كليةً فيها، مما يوحي بأن ثمةَ دافعاً سياسيا جعل فرنسا تُقدم على هذا التصريح، وهذا جزء منه:
»Il y a dans cet islamisme radical, une volonté revendiquée d’afficher une organisation méthodique pour contrevenir aux lois de la République et créer un ordre parallèle d’autres valeurs, développer une autre organisation de la société. «
«في هذا الإسلام الراديكالي، إرادة علنية لإظهار تنظيم منهجي يهدف إلى الالتفاف [أو الانقلاب] على قوانين الجمهورية [أي الفرنسية] وخلق قانون موازٍ يتبنى قيما أخرى، وتطوير تنظيم آخر للمجتمع. »
بعد هذا، يمكنني أن أقول، باختصار شديد، إن مفاتيح فهم الخطاب الفرنسي تنحصر في أهم كلمتين، إذا تم تحديدُ مفهومَيْهِما فُتحت آنئذٍ مسالكُ التعامل الصحيحة معه، بدءاً بفهم قصد الـمُصَرِّح وانتهاءً بِـرَدَّة الفعل الصحيحة الملائمة تجاهه، والأمر ههنا ليس متوقفا على فهم كلامِ متكلِّمٍ فحسب، وإنما تتوارى خلفه العديد من المعاني التي ستظهر على أرض الواقع مستقبلا، منها ما أشار إليه هو نفسه في تتمة التصريح، حين تحدث عن إيقاف التعامل مع بعض الدول فيما يخص تصدير الأئمة إلى فرنسا، وكذا إشراف الدولة الفرنسية على تكوين الأئمة وعملِهِم وتوقيف كل مَن خالف تعليماتها!
أولى هاتين الكلمتين، هي «الإسلام»، وهنا يجب أن نتساءل، ماذا يقصد ماكرون بها؟
إن كان يقصد دين الإسلام، عقيدةً وشريعةً، وهو ما يدل عليه ظاهرُ مجموعِ مفردات الخطاب، فكلام ماكرون خاطئ تماما، أو على الأقل مُخطَّأٌ عندي، لأنني لا أرى أن جوهرَ الإسلامِ يعيش أيَّ أزمة، بل هو باقٍ يتمدد بسرعة وهدوء كلما لامس القلوب، وناسُهُ يعيشون تحت ظِلالِ أحكامه بسلالة وتسليم. أما إن كان يقصد صورا من التدين، أو عددا من المسلمين، أو السياسة المُطبَّقة حاليا في بعض الدول المنسوبة إلى الإسلام –أي السياسة-، فمعنى كلام ماكرون في هذه الحال صحيح نسبيا، إذ ما نراه في الشرق الأوسط من تصدعات كثيرة واستعمالٍ لسياسة الكيل بمكيالين بين الدول الإسلامية، وما هو حاصل من اختلال في الأولويات (العداء بين الإخوة + التطبيع مع الأعداء)، يصحح كلام ماكرون، مع تسجيل ملاحظة مهمة، وهي أن استعمالَه لكلمة (الإسلام) لهذا المعنى استعمالٌ مُضَلِّل، لانصراف الفهوم مباشرة إلى غير ما سبقت الإشارةُ إليه، فيكون الرئيس الفرنسي مخطئا في الأول معنى ومضمونا، وفي الثاني شكلا واصطلاحا.
ردود الفعل:
أما ردود الفعل تجاه هذا التصريح، فقد جاءت متباينة تماما، إذ منها بعض الردود البنّاءة التي تستحق التنويه، وهو ما كتبه عدد من الأساتذة الذين ردُّوا ردودا معقولةً على تصريح الرئيس الفرنسي، ومنها مَا خبَطَ فيها أصحابُها خَبْطَ عَشْواءَ، بين سب وشتم وانتهاك للأعراض، وهذه الردود وإن كنتُ أعذر أصحابها بأن دافعَهم هو الغيرة على دينهم ومحاولة الدفاع عنه، إلا أنه لابد من الوقوف عند بعض الأمور المتعلقة بها، والتي أُجمِلها في الآتي:
– كل الردود التي تَضَمَّنَت السخريةَ من شكلِ زوجةِ الرئيس الفرنسي وعمرِها ردودٌ نفسية فقط لا تخدم القضية، لأن الانتقادَ الفرنسيَّ كان للدين، بينما الشتم والسب والتشهير توجَّه للعِرض، ولا يخفى على عاقل ما بين التصريح والردود عليه مِن فوارق تُضعِف وتقلِّص مساحةَ تَمَاسِّهِما.
– تركُ تبرئة الدين الإسلامي ببيان تهافت مضمون الخطاب ومهاجمةُ الشخص أمر لا تستقيم به حجة ولا يُبطَل به باطل، وغاية ما يُقدِّم هو تنويم النفس والكذب عليها لتبرير تركِها ما ينبغي فعلُه، بل أكثر من هذا، هذا النوع من الردود يمنح خصمَك مساحةً واسعةً للسخرية منك ومن مستوى تفكيرك، لأنك في كل الأحوال لم تنفِ التهمة عن دينك، بل إنك -في أفضل الأحوال- لن تحقق به إلا تعادلا ينتهي فيه الأمر إلى بقاء القدح للطرفين، وفي النهاية، سيخبرك خصمك بأنه ناقص كما تقول، وأنه لا يدعي المثالية ويتقبل النقصان، وبالتالي، فتهمتك له باردة، وتهمته لك ستظل ثابتة، فما الحل إذن؟
– الاحتجاج بهجاء النبي ﷺ للمشركين لاستباحة الأعراض والقدح فيها دون فعل ما كان النبي ﷺ يفعله من نصرة الدين والتضحية من أجله استدلال غير صحيح، فالنبي ﷺ لم يقدح في عِرضٍ قَطّ ولم يُشَهِّر بامرأةٍ قط ولا فُعل ذلك بحضرته فسكت عنه، فنوع عمل النبي ﷺ، إذن، مبايِنٌ لِنوع عمَل مَن يسبُّ الأعراض؛ صحيح أن فعلَ كِلَيْهما يدخل في معنى الذم، لكنّ حكمَ الفعلَيْن مختلفٌ، الأول مشروع لبقائه في محل النزاع، والثاني محرم لتعديه حدودَه، بل إن رسول الله ﷺ ما عاقب قومَه إلا بمثل صنيعهم، عملا بقول ربنا جل وعلا: {وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُوا۟ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَیۡرࣱ لِّلصَّـٰبِرِینَ}[ النحل: 126]، وحرف العطف في مطلع هذه الآية يجعلها معطوفةً على قول ربنا قبل هذا: {ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِیلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِ وَجَـٰدِلۡهُم بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِیلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ}[النحل: 125]، أي «إنْ كان مقام الدعوة فلتكن دعوتك إياهم كما وصفنا، وإن كنتم أيها المؤمنون معاقبِين المشركين على ما نالكم مِن أذاهم فعاقبوهم بالعدل لا بتجاوز حد ما لقيتم منهم.» [2] وهذا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قابل الهجاء الشعري بالهجاء الشعري، ولم ينفذ إلى وصف النساء والهُزُؤِ بِهن، ولو كان بيننا عليه السلام، ما كان ليرضى أن يَنشرَ صور امرأة ويُضحِك الناسَ بها.
– على هذا الخط السابق سار علماؤنا، إذ لم يكونوا منهجيا يقَعون في هذا الخطإ الذي صدر ممن دفعهم صدقُهم وغيرتهم إلى فعل ما فعلوا، بل كان أول فعلهم في أي نقاش هو تحرير محل النزاع، ثم اختيار الردود التي تصيب موطن الخلاف فتُظهر الحق على الباطل، وكل حيدةٍ عن هذا تُعَد عندهم قدحا في المناقش وفي عقله وفي مدى استيعابه، فينبهونه على هذا، فإن أصر عُدَّ مكابرا وتُرِك نقاشه كما يُترك نقاش السفهاء والمجانين.
– مقابلة التصريح المسيء بشخصنة الموضوع، يعد في أعراف المناظرات بالإلزام بما لا يلزم، وإنما الصواب أن يُجتهد في تبرئة الإسلام مما نُسب إليه، هذا أولا، ثم ثانيا، إن كان لا بد مِن المعارضة أو الإلزام، فلْيَكنْ ذلك بإثبات الأزمة في بلد الرئيس الفرنسي بحقائق اجتماعية، لأن هذا لا يتحقق بالتقاط صورة أو اثنتين واتهام شعب بأكمله بما لم يتحقق أنه فيه بمسالك التحقيق المعتبرة.
– أخيرا، أقول لمن يظن الهجاءَ سنةً مقصودةً لذاتها إنك ما فهمت قصد الشرع ولا عمَلَ النبي ﷺ، لأن الهجاء لم يكن إلا وسيلة لرد الاعتبار، وما كان يُقصَد ابتداءً، وهذا مُضَمَّن ومشارٌ إليه في كلام الصحابي حسان بنِ ثابت حين قال:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُمَـا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
وكما كان الشعر نافذا إلى القلوب في ذاك الزمان، فإنه من الحكمة اليوم أن يُنظرَ فيما يَـرُدُّ الاعتبار، فهجاء اليوم ليس قرظا للشعر، بل هو خطابهم بلُغة العصر، وبما يَنفُذ إليهم، بالبحث العلمي وتطويره، وبالثبات على سامي الأخلاق بدل النزول مع كلِّ مَنْ سَفَل.
وتتحقق المعارضة بإثبات الأزمة الدينية والأخلاقية في المجتمع الفرنسي بإقامة دراسات ميدانية أكاديمية على المجتمع الفرنسي لاستخلاص نسبة الفراغ الديني والأخلاقي وصفع رئيسه به، بدل النظر إلى تجاعيد جسد امرأة والسخرية منه؛ كما أن مِن أبرز ما تتم به مقارعتهم أن نثور صناعيا كما قارع المسلمون المشركين شعريا وأخلاقيا وفي غيرها من ميادين الحياة، ولا يتحقق ذلك إلا بما يُظنّ فيه إمكان ذلك، فهل يَظن عاقل أن المزاحمة في هذا الزمان تتم بالهجاء؟ أم بالصناعة والقوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية؟
وأرجو ألا ينسى المسلمون إرشادَ ربنا في مواطن الشنآن حين قال: {وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُوا۟ۘ وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ}[المائدة: 2]
ما كُتِبَ يُعبر عن رأي صاحبه، وهو قابل للتخطئة والتصويب والنقاش، والله تعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: جامع بيان العلم وفضله، تحقيق أبي الأشبال الزهيري (الدمام: دار ابن الجوزي، 1994)، ج 1، ص 530.
[2] محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، (تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع، 1997) ج 6، ص 335.