في لسان العرب: “الغُوطةُ مجتمَعُ النباتِ والماء، ومدينة دِمَشْقَ تسمى غُوطةَ، قال: أُراه لذلك.”، و”غُوطةُ موضع بالشام كثير الماء والشجر وهو غُوطةُ دِمَشْق، وذكرها الليث معرّفة بالأَلف واللام.” [1]
وفي مقاييس اللغة: “الغين والواو والطاء أصلٌ صحيح يدلُّ على اطمئنانٍ وغَور. […] وغُوطَة دِمَشْقَ يقالُ إنها مِن هذا، كأنها أرضٌ منخفضة.” [2]

صورة توضيحية لحدود منطقة الغوطة بالنسبة لمدينة دمشق [3]
تحيط منطقة الغوطة بكل من شرق وغرب وجنوب مدينة دمشق عاصمة الجمهورية العربية السورية وهي تابعة لمحافظة ريف دمشق المحيطة بالعاصمة السورية.
وتقع الغوطة الشرقية على بعد 10 كيلومترات شرق العاصمة، ويعيش فيها نحو 400 ألف مدني، نصفهم من الأطفال، والمعارضة المسلحة تدافع عن المنطقة ضد النظام. [4]
ماذا يقع في الغوطة؟
إن قرب الغوطة الشرقية من العاصمة السورية دمشق يُكسبها أهمية بالغة، لذلك تحاول قوات النظام السوري استرجاعها لكونها ما تزال خاضعة لسيطرة قوات المعارضة.
شهدت الغوطة الشرقية منذ انضمامها إلى ركب الثورة عام 2011 محنا ومآسي عديدة، وتعرضت وبشكل مستمر لحملات قتل وتهجيروقصف وحصار وتجويع وتدمير.
لكن الحملة العسكرية الأعنف هي التي استهدفتها في فبراير/شباط 2018، وأدت إلى مقتل وإصابة المئات، أغلبهم من النساء والأطفال، وخلفت دمارا واسعا في المدن والبلدات التابعة للغوطة.
وتربط صحيفة إندبندنت البريطانية سقوط العدد الكبير من القتلى خلال الهجوم الأخير باستخدام قوات النظام البراميل المتفجرة التي تُلقى من المروحيات والقصف المدفعي والصاروخي في وقت واحد، إضافة إلى مشاركة الطيران الروسي في الغارات الذي يستطيع السكان تمييزه من تحليقه على ارتفاعات شاهقة قبل القصف خلافا للطيران السوري. [5]
هل قتلَهم اللهُ فِعلاً !؟
يَقومُ المُشرِّع القانوني في دولةٍ مدنِيَّةٍ بوضع قوانين تسيِّر النِّظام وتحمي المُجتمع، وهذه الأنظمة لا شكَّ تنبني على موادَّ فصليَّةً يترتَّب على خرقها عقوباتٌ وتعزيرات، فيمنع هذا المُشرِّع القانوني القتل والسَّرقة والسَّحل، ويأمر بالتآخي والتَّعاون والبذل، ثمَّ يبيِّن ما تنبني عليه خروقات هذه القوانين من زواجر ودواعر، وهذا المُشرِّع طبعاً لا يتدخَّل في تصرُّفات المُواطنين، بل هو يضع الأنظمة فقط، ويترك لهم حرِّية الاختيار التي سيُحاسَبون عليها.
الذي يحدُث هنا أنَّه يقومُ مُجرمٌ من العامَّة بخرق هذه القوانين والنُّظم التَّشريعية، فيَقتل أو يسرِق وينتشِل، وَبدل أن يتَّهم العامَّة ذلك المُجرم بخرقِ القانون يوجِّهون أصابع الاتِّهام للمُقَنِّن نفسه، وبَدل أن يُوجِّه العامَّة أصابع الاتِّهام لمن يَصنع الأسلحة والدَّبابات، ويفتعل الحُروب ويختلق النِّزاعات، يَتَّهمون الإله بذلك، هل الإله هو الذي أرسل الجيش الفَرنسي لاغتصاب نساء وشفط ثروات المغرب و الجزائر؟، هل العجائز التي قتلها الألمان والولدان التي أحرقها الإسبان كان الإله يرتجي منها فرض قُوَّته العسكرية؟، أو تعزيز هيمنته الاقتصادية!؟ أم بسط نفوذه الجغرافي والحضاري؟، هل كانَ المسؤولَ عن قتل مليونٍ ونصف مليونِ شهيدٍ جزائري[6]، فلماذا لا نَقول ببساطة أنَّ المسؤول عن الشَّرِّ هو فرنساَ وألمانيا؟، ما دخْل المُقنِّن بأفعال المُجرمين!؟ .
فإذا قامت إسرائيل بشقِّ رؤوس الصِّبيان، وترميل النِّساء وتيتيم الولدان، وقتل الشُّيوخ وقطع الأشجار وحرق الرُّهبان، فالمُلام على ذلك ليس جبريل ولا ميكائيل، بل هي نفسُها إسرائيل، فالقاتل فِعلاً هو أمريكا لا حملَة عرش الرَّحمان، إذ في سنة 2015 وحدَها، قامت أمريكاَ بمفردِها بإلقاءِ ما يزيد عن 23 ألف قنبلة على الدُّول الإسلامية، 22.110 منها على العراق وسُوريا، و947 على أفغانستان، و11 منها على باكستان، و58 في اليمن، و18 في الصُّومال[7]، ومهما كانَ سَبَبُ إلقاء هذه القنابل، فهي لا تحتوي على مُستشعِرٍ-(GPS) صناعي يَفرق بين الأطفال والأحجار، بل تَسقطُ على طِفلٍ يرتدي محفظته، وشيخٍ يرعى غنمه، وعجوزٍ تحلب بقرتها، وقطَّةٍ تطعم أطفالها، وصغيرٍ تسرد له أمُّه قصَّةً عن مستقبله الذي لم يضع رجله الثانية على دربِه بعد، وفتاةٍ بريئةٍ تلعب بدُميتها قبل أن يستقِرَّ الصَّاروخ في الحجرة ويشتِّت الشَّمل ويُفرِّق الأهل ويقصف أغلى ما لديها.. ثمَّ بعد هذا كلِّه، نقوم بمنح الرَّئيس الأمريكي جائزة نوبل للسلام، ونُفاخر به في السِّرِّ والإعلام، ثمَّ نلتفت خِلفَتَنا لنجد تلك الجثث والنُّعوش فنقول :“ أين الله من هؤلاء“!؟.
ألم يقع هذا السُّؤال في أذهانكم عندما كانوا قبل قليلٍ يُصفِّقون للرئيس أوباما في حفل رعايته للسَّلام العالمي!؟، إذ بعد سنة 2015، ارتفع عدد القنابل التي أُلقيت من طرف أمريكا وحدها إلى ما يربو عن 26 ألف قُنبلة، وهو رقم تفتخر به أمريكا مقارنة بعهد جورش بوش[8]، أما ونحن في عهد ترامب، فقد نسمع أسئلة أكبر من نوع :” أين الله من الأسلحة الكيماوية والقنابل النووية” !؟، ولكن اسألوا المجتمع الغربي المحتضِّر الذي صوَّت لترامب وتبنَّى القوانين الوضعية الدَّاعية للسلام، والرَّافضة للإرهاب الإسلامي وتعاليم الصَّحراء الهمجية، إسألوا بوتين، وسوف يخبركم عن فتياتِ سوريا واليَمن ورُضَّعِ ليبيا والبحرين .
فلنتمتَّع إذاً ببعض المنطق والحسِّ الفكريِّ السَّليم، ولِنطرح السُّؤال الصحيح القويم: “ من الذي قتل هؤلاء الأطفال فِعلاً “!؟ .
فالإله حقُّ العباد عليه هو أن يضع لهم القوانين التِي تحكم وتنظِّم حياتهم، وإذا حدثَ وأن خالفنا هذه القوانين، ففساد الاستعمال لا يدلُّ على فساد المنظومة أو المنظِّم، ولا يحقُّ لنا الاعتراض على المُقنِّن الذي وضع القانون بل على المُجرم الذي خالفه، والعاصي الذي ما طبَّقه، إذ بدل أن نلوم الإله على الفقر والجوع وموتى الصُّومال، لماذا لا نلوم سارقي الثَّروات وناهبي الخيرات؟، هل طبَّقنا تعاليم الإله وأخرجنا الزّكاة؟، هل تساءلنا يوماً ما الذي كان سيحدثُ لو طبِّقت تعاليم الإسلام على السُّرَّاق والمنتشلين!؟، هل كان الفقر والجوع سيفشى فينا لو أخرجنا حق الفقراء من أموالنا، إذ تُطالِعنا مؤسسة “أوكسفام” الدَّولية أن ثمانية أغنياء(بيل غيتس- مارك زوكربرغ- وارن بافيت- مايكل بلومبرغ- جيف بيزوس- كارلوس سليم- لاري إليسون- أمانشيو أورتينغا)، يمتلكون ثروة نصف سُكَّان الأرض، فلماذا لا يكون السُّؤال هو: “أين بيل غيتس من الحقِّ الذي أوجبه الله عليه أموال الفقراء”[9] !؟ .
فالإله لم يَقتل أطفال الغوطة، ولكن … ولكن قد يعترض المُعترِض فيقول، ولماذا لا يتدخَّل الإله ليرذع هؤلاء المُجرمين؟، لماذا يسمح بقتل هؤلاء الأطفال الأبرياء!؟، وما الحكمة من وجود هذا الشَّر !؟
أين الله مما يقع لأهلنا في الغوطة؟
في ساعات الحرب على المستضعفين وقتل المظلومين والفتكِ بأرواحهم، تستجد أسئلة لها علاقة مباشرة بالمبادئ الإلحادية، وكأنها تدل على لحظة انهيار نفسي أمام مدفعة أهل الظلم والعدوان، فيسأل المرء في نفسه أو علنا غاضبًا: “أين الله مما يحدث لإخواننا في الغوطة؟”، وقد كُتبَ ما كُتبَ عن هذا السؤال وخاض فيه الفلاسفة ورجال الدين ما لم يخوضوه في المواضيع الأخرى، ذلك لأنه متعلق بعناصر مشتبكة بالنصر والخير والشر والانتقام والعقاب، وما من بأس في هذه الفقرة أن ندلوَ بدلوِ إجابتنا من زاوية شرعية تفك عقدة الضعف التي تتمركز في قلوب المظلومين وأنصارهم.
دعنا أولاً نتفق على أن هذا العالم البشري مليء بالحيوانات المنحطة في كل ركن من الأركان، ولن تتبدل أو تتغير هذه الحقيقة إلى الأبد، فسوف تموت الشمس وتتحول لثقب أسود يبتلع كرتنا الأرضية وقبل ابتلاعها بثوان لن يكون انعدامًا لهذه الحيوانات المنحطة، ودعنا نتفق ثانية أن هذا العالم لن ينتهي من الحروب والعداوة، وأن ذلك العالم الذي يحلم به البعض “عالم الخير المطلق” لا وجود له إلاّ في الأحلام، أو بالأحرى: لا وجود له إلا في عالم سبيستون -كوكب بون بون-، حيث القلوب المتطايرة والبنايات مصنوعة من الحلوى.
في البداية لابد أن نستحضر أن الله عز وجل استخلفنا في هذه الأرض لنتحمل خيرها وشرها (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)[البقرة : 30]، وألهمنا الحرية التامة في فعل ما نريد، فما يفعله الإنسان من خير وشر = هو من نفسه، فهذا السفك الذي يقع على أيدي الهالك بشار هو من نفسه، وفي ذلك يقول سبحانه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) [الروم:41]، وكل هذه الآلام إنما أصلها تفريط الإنسان في تفعيل أدواته الروحية والمادية، و كل هذا في علم الله مع وجوده وحضوره وانعدام غفلته: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)[إبراهيم: 42]، هذا جحيمٌ صنعه بشار وأعوانه لعلة قوته، وفي المقابل من ذلك أعطانا الله عز وجل أدوات أخرى نصنع بها جنة تضاد جحيمه بأسباب شرعية وكونية:
– فالأسباب الشرعية: هي ما أتى بها الشرع لرفع ظلم أو تحقيق غرض، مثل الدعاء سبب في شفاء مريض.
– والأسباب الكونية: هي محل جريان المرء في أموره كلها، مثلا: النجاح يتطلب المذاكرة وقوة الحفظ وقوة التحصيل، فهذه المسائل كلها سبب كوني لتحقيق النجاح، فإن انتفت انتفى النجاح.
وبإسقاط هذه السببين على ما يقع للمسلمين في الغوطة، نقول أن تحصيل القوة مطلوب لتحقيق السبب الشرعي، وفي حديث المغيرة بن أبي قرة السدوسي سمعت أنسا يقول : قال رجل : يا رسول الله ، أعقلها وأتوكل ، أو أطلقها وأتوكل ؟ قال: ” اعقلها وتوكل”، يعني الناقة.[10]
وباستقراء بسيط على المعجزات التي وقعت على أيدي الأنبياء نجد أنّها تمر على سبب كوني ثم يتحقق السبب الشرعي، ومثال ذلك: أن الله عز وجل أمر موسى -عليه السلام- بإلقاء العصا، وأمره أن يضرب البحر لينفلق، وأمر مريم عليها السلام أن تهز بجذع من نخلة لتساقط عليها الرطب، وغيرها من المعجزات.
فالشاهدُ في هذه النقطة أن خصلة العمل بالسبب الكوني تكون ملازمة لتحصيل أمر ما في هذه الدنيا وكذا الآخرة، وهذا يشمل أيضا رفع ظلمٍ افتعله طاغية، فقد أمرنا الله عز وجل بإعداد ما نستطيع من القوة ومن رباط الخيل: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُون)[الأنفال: 60]، وهذا ما لم يتحقق فينا اليوم، فكيف سيكون النّصر مثلاً؟ ولم يُلام الله عز وجل وقد أعطانا أسبابًا جلية حتى نتصدى لهذا الظلم والعدوان؟.
إن الله عز وجل قادر على أن يقول للشيء (كُن فيكُون) وقادر على أن ينصر أهل الغوطة في يومها الأول: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ)، لكن حكمته تقتضي أن يكون لكل شيء سبب.
وبالنظر إلى موضع الإشكال نجد السائل الغاضب (أين الله مما يقع في الغوطة؟) وكأنه يطلب من أن يكون الله متصفا بالشفقة والرقة، وهذا عين التجاوز في الذات الإلهية وذلك لأمور:
أن السائل يظن بأن الله عز وجل طالما يتصف بالرحمة فهو يتصف بالشفقة، وحقيقة ما في الأمر: أن الشفقة هي الرقة العطوفة بسبب النصح أو المحبة، تنبع من الخوف من أن يتعرض ذاك المحبوب أو المنصوح لضرر أو مكروه، قال المناوي: “صرف الهمَّة إلى إزالة المكروه عن النَّاس”[11]. ويقول الرَّاغب: “الإشْفَاق : عناية مختلطة بخوف” [12].
فلا يستقيم أن يخاف الله تعالى على أحد أن يمسه مكروه ثم يقع! لذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: “ولو علم أن رحمته ليست رقة إذ لو كانت كذلك لما ذبح عصفورا ، ولا ألم طفلا، وعقابه غير مأمون، فإنه شرع قطع اليد الشريفة بسرقة خمسة قراريط”.[13]، حينها يتجلى لنا في حديث رواه مسلم والبخاري مدى رقي هذه العقيدة، فعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول “جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزأ وأنزل في الأرض جزأ واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه”[14]. فتلك الشفقة جعلها الله عز وجل بين خلقه ليتعاملوا بها، وإلا لما وقع ظلم ظالم إذا أشفق الله على كل مظلوم!.
الشر .. بين الإيمان والإلحاد.
سيطر مشكل الشر سيطرةً بالِغةً في الساحة العَقَدية، خاصة فيما يرتبط بالوجود الإلهي واتّصافه بصفات العلم والقدرة والرحمة، ترتب عن ذلك تباين معتقدات الناس بين متشبثٍ بوجود الإله مستوعبٍ للحِكَم من سماحِهِ بوُجُودِ الشرِّ بين مخلوقاته، وبين نافٍ لوجود إله كامل العلم والقدرة، مبررا ذلك بامتناع اجتماع الإله الخيِّر والشر.. وهذا فقط إجمال للمواقف، إذ أن الموضوع لا تسعنا لاستيعابه أسطرٌ أو حتى صفحاتٌ..
في مناظرة الفيلسوف الأمريكي ويليام لان كريج للفيلسوف البريطاني الملحد استيفن لاو، حول موضوع ( هل يوجد إله؟)، ظهرت بجلاء غَلبة مشكل وجود الشر في العالم على الأدلة التي ناظر بها استيفن لاو، وسار على نفس النَّهج الفيلسوف الأمريكي ” مايكل تولي ” في مناظرته لكريج أيضا حين طرح مشكل الشر وجعله بارزا بين مُجمل أدلَّته، حتى أنه عبَّر عن ذلك بقوله :” الحُجّة المركزية للإلحاد هي حجة الشر” [15]
وفي غير هذين الموقفين أيضا تتجلى مركزية وإشكالية الشر في تبرير الإلحاد عند كثير من المفكرين فضلا عن عوام الناس، بل إن عرّاب الإلحاد، ومُنَظِّره الأول ” سابقا ” أنتوني فلو، ذكر في كتابه ” هناك إله ” أن معظم الملحدين المُعاصِرين إنما ألحدوا على ضوء هذه الخلفية – أي وجود الشر -، وكذلك وصفها شاعر ألمانيا الشاب، جورج بوشنر، حين قال أنها : ” صخرة الإلحاد “.
وكلما ذُكر الشر ذُكر معه الفيلسوف اليوناني المشكِّك إبيقور – Epicurus )) الذي اعترض عقلُه ورفض وجودَ الإله مع الشر في وقتٍ واحد، وقال بما معناه أن وجود الإله دليل على وجود الخير المحض، ووجود الشر دليل على عدم وجود إله، وقد صاغ هذه النّظرةَ الفيلسوفُ الأمريكي ويليام روWilliam ROWE )) بقوله : إن تناقض وجود الشر ووجود الإله الخيِّر يلزم منه نفي أحدهما، ولما كانت معرفتنا بوجود الشر يقينيّة لا يمكن نفيُها، وجب إذاً القول بنفي وجود الله[16]
نعم، هذه اقتباسات إلحادية طفيفة من مشكلٍ تعرَّض لمئاتٍ أو آلافِ الأبحاث عَبْر التاريخ، وترتكز في مُجمَلِها على نفي وجود الإله بِناءً على مقدمات ترتكز على امتناع اشتراك الإله والشر في الوجود، ولكن، هل هذه المقدمات صحيحةٌ ومُطلَقةٌ حتى تَنتجَ عنها نتائجُ اعتبرها البعض قطعية ومطلقة؟! هذا ما سنحاول تبيينه بإيجاز..
ننظر الآن بنظَر الطَّرَف الآخر، الجهة المقابلة للإلحاد، حيث الإيمان بوجود الله والشر معا، هنا نجد تفسيرات أكثر منطقيةً وأبعد عن العجلة والاختزالية، فقد تم تفكيك تلك الشبهة والنظر في مقدماتها، وذلك انطلاقا من تحديد مفهوم الشر أولا :
يمكن اختصار كل التعاريف الفلسفية للشر وإجمالها في تعريفين اثنين، أولهما أنه حقيقة موضوعية، وثانيهما أنه ليس إلا غياباً للخير، أو كما عرَّفه كورنليوس بلنتنجا Cornelius Plantinga )) بأنه :” غير ما يجب أن يكون عليه الشيء [17]، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشر ينقسم عقلا إلى شر مَحض مطلق، وشر نسبيٍّ مضاف إلى غيره.
فالشر المحض هو الذي يخلو تماما من كل صُور النفع والخير إطلاقا، وهذا منعدم في الدنيا، لأن كل شر تجد مُقابِلَه إفادةً أو خيراً أدركتَه أو لم تُدركه، فقتل الأبرياء والاعتداء على الضعفاء ونهب الأموال هو شر من جهة الضحية، نفع من جهة المعتدي والغاصب، والمرض شر بالنسبة للمريض، لكنه خير للطبيب، وللصيدلي، وللجراثيم، وقد يكون خيرا للمناعة أيضا، وبعيدا عن العاطفة، يمكننا الجزم بأنه لا وجود لشر مطلق في الدنيا ليس له صورة من صور الخير والنفع، بل إن كل شر يمكن أن نَصُوغَ له وجها من أوجه الخير..
أما نوع الشر الثاني، الذي هو النسبي، فهو الموجود في الدنيا، وهو الذي عرَّفه ابن القيم بقوله :” الشرّ نسبِيٌّ إضافيّ وهو وضع هذا التأثير في غير موضعه والعدول به عن المحل اللائق إلى غيره. وهذا بالنسبة إلى الفاعل، وأمّا بالنسبة إلى المفعول فهو شر إضافيّ أيضًا، وهو ما حصل له من التألّم وفاتَه من الحياة، وقد يكون ذلك خيرًا له من جهة أخرى، وخير لغيره.” [18].. ومثال ذلك ما جاء في القرآن من قصة الخضر وموسى عليه السلام، لما خرقَ السفينة، فاستنكر عليه موسى عليه السلام فِعلَه واستعظَمه، لكنه رأى فيما بعدُ الخير المُتواريَ خلف هذا الشر، لما علِم إعراض الملك الغاصب عن السفينة ذات العيبِ – الخَرق -.[19]
واختصارا لنظرة المؤمنين لوجود الشر في المخلوقات، فإنهم يعتبرون الخير المطلق من الله وإلى الله، فهو لا يصدر عنه إلا الخير المطلق، وأن الشر النسبي من البشر ناتج عن إرادتهم وزيغهم أحيانا عن فعل الصواب كما عرّف ذلك ( بلنتنجا )، أما الشر المحض المطلق فهو عندهم منعدم لانعدام عقلانيته، ولأنه يجب أن يكون مخلوقا بذاته غير منسوب لغيره، والله لا يخلق شيئا مطلقَ الشر..
ولو لم يكُن الشر من الإنسان يأتي على شكل اعوجاجات نفسية تنعكس على السلوك ما كانت البشرية على امتداد تاريخها تضع القوانين لردع المجرمين، متديّنةً كانت أو غير متديِّنةٍ..
ويُقدّم المؤمنون تفسيرات عديدة للشر – كما سيأتي معنا – ككون الدنيا دار اختبار لا دار رفاهية، إذ لو كانت كذلك لما كان للآخرة معنًى، وأيضا أن الشر راجع لإرادة الإنسان الذي جعله الله تعالى مخيَّراً في أفعاله وليس مجبَرا على فعلها، كما أن نظرة المؤمنين للشرور نظرة لا تكتمل إلا بانضمام عنصر المكافأة المتمثل في البعث للحساب، فكيف يا ترى يُحاسِب المؤمنَ من لا يؤمن بالبعث والجزاء، حتما ستبقى كفة الشك طافحة ما لم تتساوى معطيات التوازن؟!!
مع طرحِنا لنظرتين متناقضتين بشكل سريع لمعضلة الشر، قد يتساءل متسائل عمَّا قدمت هذه النظرة من إجابات لمشكل الشر، وعن القتل والإجرام السائدين في الأرض، أين الله من هذا إن كان فعلا موجودا؟ وهل الله أذِن بهذا مادام مطلق العلم والقدرة؟ وهل فعلا الله هو من قَتَلهُم؟..
الحكمة من الشَّر.
ولقراءة هذا المحور، وجب الاتفاق على أمور ثلاث :
أولا : أنَّهُ لا يوجد شرٌّ محض.
ثانيا: أنَّ هذا الشَّرَّ إنساني لا إلهي.
ثالثا: أنَّ الشَّرَّ سببه عصيان أوامر الإله.
فإذا كان ذلك كذلك، لماذا لا يقوم الإله بحبس هذا الشَّر، ما الحكمة من وجوده!؟، وبما أنَّ الأجوبة في هذا الباب طالت من قبل الباحثين بقدر تهافت اعتراضات المُعترضين، يمكننا إجمالها في محاور كبرى كالآتي :
أولا : إذا كان المُعترِض على الإله يُنكر وجوده بوجود الشَّرِّ فهذا يُعضل نفسه بنفسه، ويقوم بوضع عبئ المشكلة على ظهره وحملِها على عاتقه، فإذا كان الإله غير موجودٍ، فمن سينتصر لأولئك المظلومين!؟، ومن سيرد حقوق المُغتصبات ويسترجع كرامة المضطهدين، ويُعيد أبناء الثكالى، ويُحاسب الظَّالمين والطُّغاة والمعتدين، أمَّا إذا كان المُعترض مؤمناً بهذا الإله معترضاً على رحمته، فلا بدَّ أن يربط رحمته بحكمته، ومن تمام حكمته تواصُله مع خلقه وتوضيحه لهم لماذا يوجد الشَّرُّ في العالم، وعندما أتينا نبحث في الإسلام وجدنا أنَّ هذا الإله قد أخبرَنا أن هذه الدُّنيا دار عبورٍ لا دارُ قرار، والإنسان مُعرَّضٌ فيها للبلاوى والشُّرور، قال تعالى:“كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ“[20]، وبالتالي فمهما أصاب هذا الإنسان من خيرٍ يوقن أنه ابتلاء يقتضي الشُّكر بالقول والفعل، ومهما أصابه من شرٍّ يوقن أنه ابتلاء يقتضي الصَّبر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:“عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ “[21].
ثانياً: يتخَيَّلُ المتخيِّلون أو يطمحون أنَّه حتَّى تتحقَّق رحمة الإله، فعليه أن يتصدَّى لقنابل أمريكا وصواريخ فرنسا وبريطانيا، ويُرسل الإعانات الغذائية إلى الجوعى، ويُوقف الزَّلازل ويحبس البراكين والفيضانات، وهذا حتماً لم يفهم المحور السَّابق :” هل قتلَهم اللهُ فِعلاً !؟ ” ، أنَّ الدُّنيا دار ابتلاء واختبار، والتحكُّم في أفعال المخلوقين وجبرهم شرعاً نفيٌ لإرادتهم الحرَّة، فلا يعقل أن يجبر الإله العبد على فعلٍ ما، ثمَّ يُحاسبة على نفس ما قام بجبره على فعلِه، ولكنَّ الإله ترك للعباد حرِّية الإرادة والتَّصرف، يوظِّفها من شاء في الخير ومن شاء في الشَّر، والحساب في الأخير .
ثالثاً: المؤمنون أوَّل من تعرَّض لتلك الابتلاءات والآفات، فأحرق إبراهيم بالنَّار، ومرض أيوب، وسُجن يوسف، وسيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولد يتيماً وعاش فقيراً، شُجَّت رجله وكُسرت رباعيته وقُتل أصحابه ومات زوجه وأهله في عامٍ واحد، وجُلد الإمام مالك وبعده أحمد وقبلهما اضطهد أبو حنيفة، وهؤلاء جميعاً لم يقُل ولا واحد منهم أنَّ الله غير موجودٍ أو غير رحيمٍ، بل ما زادهم الجلد إلا يقينا والسِّجن إلا إيماناً و تسليماً.
رابعاً: أنَّ وجود الشُّرور في العالم من أسباب السَّعادة والخيرات، لأنَّ القيم تُستمدُّ من الأضداد، فلولا الجوع ما كان للشَّبع معنى، ولولا الليل ما أحسسنا عذوبة شمس النَّهار، ولولا وجود الشَّر-نسبيا- ما أحسسنا ولا ذُقنا طعم السَّعادة، فلولا وجود عكس المعنى لما كان للمعنى معنى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1] ابن منظور، لسان العرب، ط. دار صادر – بيروت، المجلد 7 الصفحة 366.
[2] ابن فارس، مقاييس اللغة، بتحقيق وضبط عبد السلام هارون، ط. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الجزء 4 الصفحة 402.
[3] المرصد السوري لحقوق الإنسان.
[4] هذا باختصار ما يجري في الغوطة الشرقية، موسوعة الجزيرة.
[5] المصدر السابق.
[6] https://www.theguardian.com/commentisfree/2012/jul/05/50-years-algeria-independence-france-denial
[7]
https://goo.gl/2ug4UB
Estimate based upon Combined Forces Air Component Commander 2010-2015 Airpower Statistics; Information requested from CJTF-Operation Inherent Resolve Public Affairs Office, January 7, 2016; New America Foundation (NAF); Long War Journal (LWJ); The Bureau of Investigative Journalism (TBIJ).
https://goo.gl/2cPZkh
[8]
https://www.theguardian.com/commentisfree/2017/jan/09/america-dropped-26171-bombs-2016-obama-legacy
[9]
https://goo.gl/FHFJHA
https://goo.gl/4c8KD1
[10] صحيح الجامع للألباني ح1068
[11] التعريفات – ص127
[12] مفردات القرآن – ص458
[13] صيد الخاطر صـ300
[14] رواه الشيخان
[15]Chad Meister and James K. Dew, eds, God and Evil: The case for God in a World Filled with pain ( downers Grove, Illinois: IVP Books, 2013), p. 298.
[16]William Rowe, Philosophy of religion: An Introduction ( Encino, Calif.: Dickenson, 1978), p.113.
[17] مشكلة الشر ووجود الله. للدكتور سامي عامري. ص.: 97.
[18]شفاء العليل، مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص.: 368.
[19] انظر: كامل الصورة ٢ ليطمئن قلبي. للدكتور أحمد السيد. ص.: 30.
[20] سورة الأنبياء: 35
[21] رواه مسلم