بعد القانون الفرنسي الجديد الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية صار إنكار مذابح الأرمن في العهد العثماني أو التشكيك فيها بأي وسلة يعرِّض صاحبه للسجن لمدة سنة وغرامة قدرها 45 ألف يورو [1]!
هذا القرار أعاد وسط بعض الفرنسيين أول إبادة جماعية في العصر الحديث والتي لا زالت الدولة الفرنسية تكابر في إنكارها، في مقابل المسارعة إلى سن قوانين تتعلق بجرائم خارج حدودها.
ففي سنة 1793 استهل الفرنسيون عصر الأنوار بأول جريمة إبادة جماعية في العصر الحديث، كانت فرنسا في عزّ الثورة وفي أوج سيادة الفكر العلماني حيث لا صوت يعلو فوق صوت لجنة السلامة العامة التي اتخذت قرارا في 1 غشت 1793 بإبادة سكان فوندي (Vendée) بسبب احتجاج الفلاحين على الضرائب المفروضة وسياسة الإقصاء تجاه من يتبعون الكنيسة الكاثوليكية، كان القرار قاسيا يقضي بإحراق كل الممتلكات والغابات وقتل كل السكان (سمَّاهم القرار لصوصا) قبل شهر أكتوبر، أي في مدة شهرين فقط! مع الحرص على عدم استهلاك ذخائر الجيش.
ارتكب الجيش الثوري الفرنسي كل الفظاعات واستُخدمت أفران الغاز وإغراق المراكب بعد أن حشرت فيها أعداد هائلة من الرجال والأطفال والنساء للتسريع بالإبادة الجماعية، وتم سحق الأطفال تحت أقدام الخيول، واستخدمت الأسلحة البيضاء في ذبح وتقطيع الضحايا في محاولة لتجنب استخدام الذخائر النارية ما أمكن.
اختلف المؤرخون في تقدير أعداد الضحايا بسبب إخفاء الدولة الفرنسية لكل الحقائق المتعلقة بهذه الإبادة، وقد أوصل بعض المؤرخين العدد إلى 815 ألف نسمة!
لم تنته الفظاعات هنا بل كان الأسوء هو تواطؤ المؤرخين والفلاسفة من ورثة الفكر التنويري على تبرير هذه الإبادة منذ ذلك العهد وإلى اليوم حتى جعلها البعض مجرد أحداث مؤسفة وقعت في سياق حرب أهلية، في أدلجة صارخة للتاريخ بعيدا عن الوقائع المثبتة على الأرض، وعمل هؤلاء جاهدين على الحفاظ على سمعة ثورة الأنوار الفرنسية. وعملت الدولة الفرنسية على إخفاء كل الوثائق المتعلقة بهذه الإبادة التي تدين الدولة بشكل مباشر …
كانت الأدبيات المؤسسة للثورة واضحة في ضرورة اللجوء إلى القوة أو التطهير لضمان استمرار الجمهورية ومن يساندها من البورجوازيين، ومن ذلك إسقاط حقوق الأقليات كما يوضح ذلك الفيلسوف جان جاك روسو في العقد الاجتماعي بتأكيده على أن كل أقلية ترفض قرارات الأغلبية تنقض العقد الاجتماعي: (يصبح بجرائمه عاصيًا خائنًا للوطن، ويعود غير عضو فيه بانتهاكه حرمة قوانينه، ويعد حتى شاهرا الحرب عليه، وهنالك تصير سلامة الدولة مناقضة لسلامته، فيجب أن يهلك أحدهما، فإذا أعدم المجرم وقع هذا على أنه عدو أكثر منه مواطنًا) [2]، وبالتالي فكل من يرفض مبادئ الجمهورية فليس فرنسيا، وبسقوط صفة المواطنة لا يمكن اعتبار ما وقع إبادة جماعية حسب المدافعين عن مبادئ الجمهورية.
وكان المتحمس لأفكار روسو ”ماكسميليان روبسبير” رئيس نادي اليعاقبة متزعم ”عهد الإرهاب التنويري” يجيش الجيوش لإبادة كل من يعترض على مبادئ الجمهورية العلمانية بدءا من رفاقه في الثورة، ويشيع في الناس أن الإرهاب والرعب هو الذي يؤدي إلى الفضيلة والحرية [3].
المسألة هنا ليست مسألة تاريخية مضى عهدها، بل هي جرائم شاهدة على توظيف فكر التنوير لتبرير جرائم وحشية والاتكاء على قوة الدولة في إخفاء معالم الجريمة، بل وممارسة نوع من الإرهاب الفكري ضد من يحاول التغريد خارج السرب، فقد أصدر الكاتب رينالد سيشر (Reynald Secher) في الثمانينات كتابا عن هذه الإبادة الجماعية جرَّ عليه كثيرا من الانتقادات والاتهامات وصلت إلى حد تهديده بالقتل!
لكن مع كشف أرشيف الوثائق الرسمية التي وقعتها لجنة السلامة العامة اتخذ النقاش منحى آخر سبب حرجا كبيرا لكثير من المؤرخين، حيث قدَّم البرلماني الفيندي دومينيك سوشت (Dominique SOUCHET) مقترح قانون يقضي باعتراف الجمهورية الفرنسية بجريمة الإبادة الجماعية في فوندي (Vendée) وتحمُّل مسؤوليتها بخصوص تلك الفظائع [4]. لكن بدل أن تتصالح فرنسا مع تاريخها الدموي في الداخل أولا قررت التمادي في الإرهاب الفكري والذهاب بعيدا بإقرارها قانون يقضي بتجريم إنكار مذابح الأرمن في العهد العثماني، ليصبح كل من حاول التعبير عن رأيه في مذابح الأرمن واقعا تحت طائلة القانون الفرنسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : تم رفض القانون من طرف المجلس الدستوري الفرنسي بعد تصويت البرلمان بغرفتيه على القانون.
[2] : العقد الاجتماعي، جون جاك روسو: الفصل الخامس، حق الحياة والموت.
[3] : Robespierre, “On the Principles of Political Morality,” in Robespierre: Virtue and Terror, 115.
[4] : انظر مقترح قانون للاعتراف بجريمة الإبادة الجماعية هنا.
واو والله اني تفاجأت بهذة المعلومات،، جزاكم الله خير ،،. كنت اتمنى انظر لوجوه المتنوريرين عند معرفتهم للحقائق