طوبى التنوير في المغرب:
دعونا نتحدث قليلا عن مهرجان “ثويزا”، ولكن دعونا قبل ذلك نتحدث قليلا عن التنوير.
ما التنوير؟ هكذا تساءل إيمانويل كانط.
فأجاب: التنوير هو اتخاذ “الفكر وسيلة لتقويض النظام القائم” في ألمانيا آنذاك [1].
لقد كان كانط يريد مزاحمة النظام القائم في إيديولوجيته الدينية، فكان ذلك بمثابة تعبير عن حاجة لدى الناس ملحة إلى التغيير والتخلص من الوضع القديم.
هل شروط مغرب اليوم هي نفسها شروط ألمانيا كانط؟
لا، ثم لا.
ألمانيا الإقطاع، ثم ألمانيا البورجوازية… لن تكون هي مغرب الاستعمار العسكري، ثم مغرب الاستعمار الجديد…
بل إن ألمانيا الإقطاع، ثم ألمانيا البورجوازية… لم تكن هي فرنسا الإقطاع، ثم فرنسا البورجوازية…
إذ على أساس هذا الاختلاف الأخير، اختلف التنوير الألماني عن التنوير الفرنسي. فلا العلمية هي الطوباوية، ولا الجدلية هي غياب الوعي بالتناقض. لا ماركس هو أوين، ولا هيجل هو روسو [2].
لن يكون أحد ضد التنوير. ولكن، عن أي تنوير يتحدث هؤلاء؟
هل يتحدثون عن تنوير يعكس واقع المغاربة وحاجاتهم الاجتماعية؟ أم يقصدون تنويرا استشراقيا يعكس مصالح الاستعمار الجديد؟
لا نراهم يقصدون إلا التنوير الثاني، وإلا فليفصحوا لنا عن واقع تنويرهم.
ليست هناك فلسفة في الأعالي، وبالتالي ليس هناك تنوير يتخلّق في عقول نخب التبعية وحدها.
“ثويزا” مهرجان “الاستشراق الجديد” بامتياز:
كلكم، أيها القراء، تذكرون نوال السعداوي وهي تدعو إلى التمرد على الأسرة في هذا المهرجان. كلكم تذكرون يوسف الصديق وهو “يقول كل شيء، ولا يقول شيئا” في نفس المهرجان… كلكم تذكرون أسماء عديدة باختلاف تخصصاتها واهتماماتها، تشترك بتفانٍ في خدمة غايات “ثويزا”: تفكيك كل ما يمكن تفكيكه من ثقافة أو تقليد يجمع الناس ويوحدهم.
دعوكم من الدورات الماضية، وهلم بنا نلقي نظرة على الدورة الحالية (2019):
- القيم تتحول بسرعة في عصر رقمي، فكيف نوظف ذلك في تمييع الفكر وإسالة كل ما هو صلب؟
- الجنس حاجة ملحة، فهلم بنا نمارسه بدون قيود فنعود إلى الغابة (ضرب الأسرة، ومن ثم ضرب الدولة).
- محمد شكري أديب يتكلم بواقعه دون حرص على نقاء ألفاظه، إذن فلنستغله لنقول للناس لا قيود في الإبداع.
- الدين ليس هو الحقيقة (الدين أسطورة، في نظرهم)، فلندمره إذن من غير تريث.
- كارل ماركس وجه بارز، فلنحوله إذن إلى رمز من رموز الإمبريالية الجديدة ضدا على كل ماركسي تفطن إلى التناقض مع الاستعمار.
- لا معنى للجدال الديني، إذن فلنترك الدين للإمبريالية تؤوله على مقاسها (دين الاستعمار والإرهاب والرأسمالية والصهيونية والتجهيل والتمييع…).
- النزعة الأمازيغية لم تمت بعد، فلنلعب إذن على وترها في سبيل إحداث الفرقة وتجديد “الظهير البربري”.
هذه هي الرسائل الكبرى التي يوجهها مهرجان “ثويزا” للمغاربة هذه السنة، مغاربة: مستعمَرون، فقراء، بسطاء، مجَهَّلون، خانتهم نخبتهم… هم كذلك، ولكن نخبتهم تأبى إلا أن “تزيد الطين بلة”.
في مهرجان “ثويزا”: أسماء حاضرة وأغراض واضحة.
ملحوظة:
كل الأسماء المذكورة أسفله حاضرة هذه السنة في مهرجان “ثويزا”، وهي أسماء منتقاة بعناية، لذلك ننبه القارئ إلى مشاريعها واهتماماتها المقدمة أسفله، فليس من تفطن كمن اندهش منذ أول وهلة.
عبد الصمد الديالمي: تأجيج الغريزة والاحتفال بالغابوية.
لم يتتلمذ عبد الصمد الديالمي على “وليم رايخ” إلا في درس واحد هو درس: “الثورة الجنسية”. لم ينظر إليه باعتباره ماركسيا تجاوز محافظة فرويد بثورية ماركس، ولم يتأثر به وهو يحاول التقريب بين “المادية الجدلية” و”التحليل النفسي”. وإنما كل ما أعجب به الديالمي في “رايخ” هو دعوته إلى “الأوار الجنسي”، فهل هي قراءة خاطئة في رايخ؟ أم أنه حقا دعا إلى “الأوار الجنسي” متناسيا كل خطوة قام بها الإنسان في سبيل مواجهة “الجنس الغابوي”؟
يريد عبد الصمد الديالمي أن يدمر رصيدا وازنا من نضال الإنسان ضد الغابوية، وهو نضال طويل تُوِّجَ بنشأة الدولة، ولا دولة بدون أسرة. ينسى (أو يجهل في الغالب) الديالمي الأسرة والدولة ونضال الإنسان في سبيلهما، فيدعو إلى “متعة” بلا حدود. إنها متعة عمياء نجني من ورائها: تغليب “الجنس (الأصيل) على الحب (الطارئ)” [3]، وبالتالي الرجوع إلى الغابة.
ذلك هو مبتغى الرأسمالية اليوم، الرأسمالية في مرحلة تعفنها واحتضارها. فهي تستنجد بالخباثة والعفونة بهدف مواجهة احتضارها، ومن ثم إطالة عمرها وضمان استمرارها.
محمد شكري: الكذب على الأموات بهدف إفساد أخلاق الأحياء.
عبد الرحمن بن خلدون (في مواجهته للنحاة)، أبو حيان التوحيدي (في مواجهته لأدب القصور)، سيد قطب (في أدبه المعبر عن حاجة جماعة وحقيقة وعي)، علي الوردي وسلامة موسى (في دعوتهما لتقريب الأدب من الناس وتبنيه لهمومهم)، محمد شكري (في تعبيره عن واقعه بأدبه)…
كل هؤلاء، عندنا، مدرسة واحدة.
يقول محمد شكري: “أعيش في المزابل، فكيف يريدونني أن أتحدث لهم عن الفراشات.”
هذا هو الوجه الناصع لمحمد شكري، فلماذا أبيتم إلا أن تظهروه للناس قليل حياء وصاحب كلام نابٍ؟
هل “الخبز الحافي” هي روايته الوحيدة؟ هل “الجنس” هو موضوعها الأول أم أن “هستيريا الجنس” قادتكم للجنس وحده ولا شيء غيره؟
لم تنتبهوا إلى رقة شكري، ولا إلى عصاميته، ولا إلى نضاله، ولا إلى وطنيته… كل ما انتبهتم إليه هو عزوفه عن الزواج وامتعاضه من مؤسسة الأسرة.
فمتى كان الخطأ والاضطراب مرجعين للاقتداء؟
ومتى كانت اضطرابات جان جاك روسو النفسية والجنسية التي يحكيها في “اعترافاته” مدخلا لقراءة “عقده الاجتماعي”؟
أحمد عصيد: تضبيب المفاهيم من أغراض الاستعمار الجديد.
يسوق أحمد عصيد لنفسه كمثقف، وهو كذلك. يقرأ الكتب، ويصبو إلى محاكاة تجارب الآخرين، يخاطبنا بالتنوير والحداثة، ويدعونا إلى العقلانية وامتلاك الجرأة العلمية، يزين العلمانية في أعيننا، ويخبرنا بأنها الحل الحقيقي لكل مشاكلنا السياسية.
“الأمازيغ”، “الجمود”، “التخلف والتأخر”، “الدين”، “الدولة”، “العنف”، “الأسطورة”، “العيش المشترك”، “التنوير”، “الحداثة”، “العلمانية”، “المرأة”، “العقل”، “العلم”… مفاهيم وغيرها كثير، يطلق أحمد عصيد العنان لعقله متبحرا في معانيها وسحرها. يظن عصيد أن التغيير يقع بالأماني والدعوات، فيصنع لنا طوبى غير مفهومة تاريخيا. ولو أن التقدمية كانت طوبى، لاكتفينا بمدينة الفقيه الفاضلة دون أن نلتفت إلى شيء آخر.
إن ما يغفله عصيد هو أن المفهوم لا يأخذ معناه إلا إذا اتخذ الواقع منطلقا.
فما يكون معناه إذا لم يكن تجريدا للواقع؟
يدافع عصيد عن حق الأمازيغ غير آبه بضروراتنا التاريخية، يدافع عن حقهم وكأنهم المضطهدون لوحدهم. نحن في حاجة إلى الوحدة السياسية، فيأبى عصيد إلا أن يفككها باللعب على أوتار العاطفة الأمازيغية. سيكون عصيد ضد الدين، لأن الدين عامل من عوامل الوحدة المغربية. سيكون ضده، لأنه يضيع عليه فرصة مخاطبة الأمازيغ بخطاب عرقي.
يدعو عصيد إلى “الفصل بين الدين والدولة”، وهنا يقع في الخلط بين المبدإ واللحظة التاريخية. لا أحد يرفض العلمانية من حيث المبدإ، فهي تعني “نزع الدين من السلطة ووضعه في يد المجتمع”. إنها تعني من حيث المبدإ “العودة إلى دين الفطرة، وتحرير الدين من الاستغلال”. هذا هو الموقف المبدئي الذي يتخذه عبد الصمد بلكبير، ويتخذه معه أحمد عصيد. إلا أن الأول يميز بين الطموح المبدئي وما تطلبه المرحلة التاريخية (بين “الحق المبدئي” و”الإمكانات الحقيقية”، بتعبير عبد الإله بنكيران في “الحركة الإسلامية وإشكالية المنهج”)، في حين ينشغل الثاني بطموحه بعيدا عن حيزه الجغرافي الذي يعيش فيه. الذي يحسم العلاقة بين الدين والدولة هو الواقع، في نظر بلكبير. وتلك هي العلاقة التي حسمت منذ زمن بعيد في عقل عصيد.
العلاقة بين الدين والدولة هي أم المشاكل كلها، هي سبب الجمود الفكري والعنف بكل أشكاله وتدني مكانة المرأة في المجتمع وغياب الوعي العلمي… على من يضحك عصيد بهذا الكلام؟ أمن المقبول أن تكون هذه العلاقة هي سبب هذه المشاكل كلها؟ ألم يظهر علماء بارزون في عز هذه العلاقة في التاريخ الإسلامي؟ هل هذه العلاقة اختيار أم تفرضها حاجة تاريخية؟
ألم يعلم عصيد أن مشكلنا هو عجزنا عن تحديث البنيات التحتية، بفعل التبعية والإمبريالية؟ ألم يعلم عصيد بأن العلاقة التي ينتقدها تتعزز ضرورتها كلما بقينا متخلفين مقلدين في بنياتنا التحتية؟ هل يعتقد عصيد أن الحداثة في الغرب كانت معركة ضد الدين وفقط؟ ألم يلتفت إلى انقلاب الإقطاع رأسمالية، وإلى انقلاب الحكم المطلق ديمقراطية، وإلى انقلاب خرافة الكنيسة عقلانية وعلما تجريبيا؟ أمن المعقول أن يكون عصيد هو سبينوزا أو ديكارت أو بيكون؟
خطأ آخر يرتكبه عصيد وهو يقرأ التاريخ الإسلامي. يرجع إلى القرون الأولى، فينظر إلى استبدادها وعنفها دون أن ينظر إلى شيء اسمه “وحدة الإمكانات التاريخية والضرورة”. يعتقد أن التاريخ من صنع أحد، فكان لا بد أن يكون كذا وليس كذا. يقرأ التاريخ ناظرا إلى “الفعل التاريخي” دون “شروطه”، يقرأ “القرون الأولى” بعقل “القرن 21 م”. أو بعبارة أخرى: يقرأ التاريخ بمثال القرن 21 م. يصعب على عبد الله العروي أن يقف على “سياسة القرون الأولى” بدقة، فيستنجد بمثالها (قناعها) ليكتشف ما خلفه. يزيدنا عصيد اغترابا على اغتراب، عندما يخفي واقع “القرون الأولى” بمثال معاصر وددنا لو أنه كان مثال فقيه (مثال القرون الأولى).
إن النظرة المثالية الأحادية اللاجدلية هي التي يعتمدها عصيد في قراءة الواقع المعاصر، ويسقطها على كل قطر من أقطار المنطقة العربية.
إنه واعظ من الطراز الرفيع، واعظ مدلِّس وليس واعظا فحسب.
خالد منتصر: ضرب القرآن تحت قناع تجديد العودة إليه.
“في كل ديانة إعجاز علمي خاص بها”، هكذا عبر أحمد سعد زايد وهو يناقش الإعجاز العلمي عند الهندوس.
إذن، لا وجود لأي إعجاز علمي في القرآن، لأنه ليس كتابا علميا بل هو كتاب عقيدة وأخلاق وشعائر. وهذا ما أكد عليه سعيد ناشيد نفسه في كتابه “الحداثة والقرآن”، إذ القرآن في نظره كتاب “جمال وابتهال” فقط.
لا أقوال عبد المجيد الزنداني، ولا أقوال زغلول النجار، ولا لطائف متولي الشعراوي… كل ذلك مرفوض عند أحمد سعد زايد وسعيد ناشيد وخالد منتصر.
لقد خصص خالد منتصر للتعبير عن فكرته هذه كتابا بعنوان: “وهم الإعجاز العلمي”، وهذا هو أشهر كتبه في مصر وخارجها. يسعى منتصر من خلال هذا الكتاب إلى تأكيد ما يلي: القرآن ليس كتاب علم، الإعجاز العلمي خطر على الدين والعلم معا، الإعجاز العلمي متاجرة بالدين، الإعجاز العلمي سبب من أسباب ضلال المسلمين… [4]
لا يسمح المقام هنا بمناقشة قضية الإعجاز العلمي، فقط وجب الإشارة إلى ما يلي:
– حقيقة، لا ينبغي أن يتحول “الإعجاز” إلى “عجز”.
– هناك من يقر بالإعجاز العلمي، ولكن بتحري الأمانة العلمية والتريث في الخروج بالمواقف (عماد الدين خليل نموذجا).
– هناك من يقول بأولوية الإعجاز البلاغي، فهو الإعجاز الأول الأصيل (يقول بهذا الكثير من اللغويين والبلاغيين).
– هناك من يقول بتطور الإعجاز من عصر إلى عصر. في الماضي، كانت البلاغة. واليوم، الحقائق العلمية والاجتماعية (مالك بن نبي في “الظاهرة القرآنية”).
كيف تجاوز خالد منتصر كل هذه الآراء متداعيا على نوع واحد من الإعجاز ومنتقدا للقول الشاذ فقط؟ كيف تجاوز خالد منتصر أطروحات: محمد بابكر الحسن، وعبد الصبور شاهين، وعمرو الشريف… في الأحياء؟
كل هذا النقاش قد يكون متجاوزا، وقد يصبح لا معنى له إذا تعرفنا على الأغراض الحقيقية من التداعي على القرآن.
إنهم يعرفون أن سبب المشاكل العلمية في جامعاتنا بعيد كل البعد عن “علاقة المسلمين بالقرآن”، إنهم يعرفون ذلك وزيادة. فلا مقولة “الإعجاز العلمي” هي التي عرقلت التصنيع في دول العالم الثالث، ولا هي التي فرضت عليها نقل التكنولوجيا، ولا هي التي استقطبت أدمغتها، ولا هي التي عرقلت تعليمها…
فكيف يخفي خالد منتصر ما نتعرض له من استعمار وتبعية بمسؤولية “القائلين بالإعجاز العلمي”؟
وكيف خولت له نفسه تشكيك ضعاف العقول في قرآنهم وهم عاجزون عن التمييز بين علم وابتهال؟
أليس النظام هو المستهدف؟ أليست الأخلاق والشعائر والعقائد الجامعة هي ما يريد الاستشراق الجديد تفكيكه باسم العلم والتخلص من “عقدة النقص” تجاه الغرب؟
أيعقل أن نسب أنفسنا بـ”عقدة النقص” تجاه الغرب (كما سوق لذلك خالد منتصر في كتابه المذكور)، ونحن نعلم جرائمَ الاستعمار ونَهْبَه فينا منذ مدة؟
كارل ماركس: التأويل الإمبريالي للماركسية.
هل كارل ماركس إمبريالي؟ هل: عبد الإله بلقزيز والحبيب الطالب وفواز طرابلسي وعبد الرحمن النوضة وعلال الأزهر… هم وحدهم ماركسيو المغرب والمنطقة العربية؟
أغلب المشاركين في ندوة “كارل ماركس… اليوم” هم الذين أعدوا عدد مجلة “نهضة” الخاص بكارل ماركس، وهم ماركسيون منتكسون، أو على الأقل تائهون لا يعرفون من الماركسية إلا بعض الشذرات (أسماؤهم ذكرت أعلاه).
لقد اطلعت على عدد المجلة المذكور، فذهلت من سوء ما قرأت.
في هذا العدد، يتداعى عبد الإله بلقزيز على لينين حارما إياه من شخصيته العلمية، وواصفا إياه برجل الميدان والممارسة السياسية (وليس علم السياسة) فحسب. ثم ينفي أن تكون هناك “ماركسية لينينية”، وإنما كل ما في الأمر هو “تأويل لينين لماركس حسب واقعه”. حكاية مسمومة سيضحك منها كل مطلع على عبقرية لينين في الرد على “النقد التجريبي” و”الرومانسية الاقتصادية” و”اقتصادوية بليخانوف”، وسيسخر منها كل مبتدئ في دراسة “نقد الاقتصاد السياسي” وكل قارئ لكتاب “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”.
يا ترى، ما سبب نقد بلقزيز للينين نقدا غير منصف (نقدا مدلسا، والتدليس من أخلاق الرأسمالية)؟
السبب الوحيد هو أن لينين والاجتهادات التي لحقته: يورى بوبوف، سمير أمين، كريستيان بالوا… قلت: هؤلاء هم الذين يفضحون التبعية ومخططات الاستعمار الجديد (ووجهه الثقافي: الاستشراق الجديد).
فكيف لمن يعيش على نفقات “الخليج الأمريكي” أن ينصف خصوم التبعية والاستعمار؟
وفي هذا العدد أيضا، نطق الحبيب الطالب قالبا الماركسية على رأسها. فبعد أن كانت منهج تحليل وإيديولوجيا ثورية، أصبحت –عنده- دينا وروحا وطقسا وعبادة. تنصرف كل جهودنا إلى إقناع الحركات الإسلامية والسلفيين بنجاعة التحليل المادي الجدلي في الاجتماع، فيأبى الحبيب الطالب إلا أن يثير خلفيتهم العقدية وأخطاءهم السابقة.
ما هو الغرض من ذلك إذن؟
الغرض هو أن تفقد النخب العربية الإسلامية أدوات التحليل الاجتماعي، فتعجز عن فهم واقعها. آنذاك تستمر التبعية، ثم يصعب التخلص منها لعدم الوعي بها.
وفي هذا العدد أيضا، يستحضر علال الأزهر –في سياق برهنته على ماركسية عبد الله العروي- نقد الجابري للعروي، وهو النقد القائل بإغفال هذا الأخير لعامل الاستعمار في تحليله لواقع المنطقة العربية. فنسي علال الأزهر أن نفس النقد موجه إليه، إذ لولا ذلك لما شارك في “ثويزا” ولما دعا إلى التنوير وقال بالمواقف السياسية دون استحضار التناقض مع الاستعمار كـ”تناقض رئيس”.
وفي هذا العدد، هُمِّش ماركسيون مغاربة كثيرون، أبرزهم: أبراهام السرفاتي، عبد السلام الموذن، عزيز بلال، أحمد الغرباوي، عبد الصمد بلكبير…
أتتكلمون في الماركسية ولا تريدون أن تروا استحالتها تحليلات واقعية في أقوال مغاربة وطنيين؟
أتريدون أن تحولوها إلى إديولوجيا في يد الإمبريالية الجديدة؟
إنكم لستم ماركسيي “العالم الثالث”، ولكنكم ماركسيو “الخليج الأمريكي”.
يوسف زيدان: إضعاف المقاومة تحت قناع توعيتها.
يوسف زيدان متيّم بالمتصوفة (بعض روادهم: محيي الدين بن عربي، الحلاج…)، ولا يخفى على أحد سيولة بعض المواقف الصوفية وزهدها في المعارك وشقها لعصى الإجماع ورغبتها في إفراغ الدين من حمولته الاجتماعية والسياسية…
وهذا طريق لا نرى يوسف زيدان إلا من سالكيه، وكأن الصوفية لا أدوار تاريخية لها. فلا الغزالي صاحب فكرة الإصلاح الديني في عهد نظام الملك، ولا أبو العباس السبتي صاحب مقولة “الوجود ينفعل بالجود”، ولا الزوايا الصوفية التي قاومت الاستعمار في المغرب… لا شيء من ذلك أتحف زيدان إلا مخالفة جماعة أو اعتزالا سياسيا مستمرا أو سيولة عقدية وشعائرية…
لا نود أن نطيل الحديث في هذا الباب، ولكن الإشارة إليه كانت ضرورية. فهناك من أراد أن يفقدنا الإجماع والوحدة من مدخل التصوف، وهناك من يلجأ للتصوف لتوجيه الرأي نحو إعادة النظر في قيم الناس والتزامهم وانتظامهم.
لا يتوقف يوسف زيدان عند حد التسويق للتصوف السائل، ولكنه فوق ذلك يضعف العوام في معاركهم الأممية. ومن ذلك، قوله بأن “المسجد الأقصى خرافة”. فالمسجد الأقصى كما ذكر في القرآن، ليس هو –في نظر زيدان- المسجد الأقصى المعروف اليوم في فلسطين.
بغض النظر عن صحة هذا الادعاء من عدمه، لا بد أن نطرح السؤال التالي: ما الفائدة التي سيجنيها يوسف زيدان من تشكيك الناس في عقائد دافعة في معركة مصيرية؟
لن يكون أحد ضد الحقيقة، ولن يكون أحد ضد واجب النخبة في التعلق بالقضايا في أبعادها الحقيقية. ولكن، ما ذنب الشعوب التي لا تعي معنى “الاقتصاد السياسي” ولا قدرة لها على ذلك؟
هي انتكاسة وعي حقا، فهل نزيدها انتكاسة مقاومة؟
هل نقاوم بالمتاح، ونطمح إلى الوعي بالقضية الفلسطينية على حقيقتها؟ أم نعطل المقاومة، وننتظر فشل طوبى توعية الناس أجمعين؟
من مصلحة الصهيونية أن تتوقف المقاومة، وبالتالي فالتشكيك في عقائد هذه الأخيرة أمر لازم.
أحمد الدغيرني: تجديد الظهير البربري.
الاستعمار الجديد يريد اليوم أن يجزئنا، ويقسمنا إلى دويلات.
الأمازيغ مغاربة، وهم مواطنو دولة. ولكن يأبى بعض “الخلعاء” (بتعبير عبد الصمد بلكبير) إلا أن يبددوا ذلك من الأذهان، فيقع الاعتداد بالقبيلة بدل الدولة. وهنا بالضبط نعود القهقرى، وندخل في حروب وفتن لا تبقي ولا تذر.
للأمازيغ لغتهم الخاصة، وقد كتبوها. ولهم دولهم الخاصة، وقد بحثوا عنها في ماض غابر.
إنهم يريدون أن يضربوا عرض الحائط مغرب الدولة المركزية، مغرب الأدارسة والموحدين والمرابطين والمرينيين والسعديين والعلويين. إنهم يريدون مغرب أقليات غابرة في زمن غابر، مغرب التجزئة وضعف الإنتاج والقابلية للاستغلال والاستعمار أكثر من كل واقع قائم مهما كان سيئا.
أحمد الدغيرني أحد هؤلاء الذين يدّعون النضال باسم الأمازيغ، خدمة لأجندات أصبحت اليوم معروفة.
وإلا فلماذا يُذَكّر الدغيرني الأمازيغ –حيث لا منفعة للذكرى- بجمهوريتهم الشرقية “أسامر”، ويسعى إلى توسيعها وتحديد عاصمتها؟ [5]
أليس الهدف هو خلق القابلية للانفصال والاعتداد بالقبيلة بدل الدولة؟
إنهم يجرون اليوم على قدم وساق بهدف:
– ضرب العربية المكتوبة كلغة دولة.
– خلق شروط فتنة تُسْتَغل في الضغط على إدارة الدولة المغربية رغبة في مصالح عينية.
– خلق الفتنة بين المواطنين عربا وأمازيغ (وكثيرا ما يعسر التمييز).
– تقسيم المغرب إلى دويلات يسهل استغلالها والتحكم فيها واستعمارها، أو حتى القضاء عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] : مراد وهبة، قصة الفلسفة، دار الثقافة الجديدة، ص 81-82.
[2] : عبد السلام الموذن، دراسة بعنوان: “الوعي التاريخي القومي”
[3] : عبد الصمد بلكبير، مقال بعنوان: “الحب والاشتراكية، فأما من ابتلي فليستتر”.
[4] : خالد منتصر، وهم الإعجاز العلمي، دار العين للنشر، الطبعة الأولى، 2005، من ص 5 إلى ص 46.
[5] : أحمد ويحمان، الخراب على الباب، شمس برينت، الطبعة الأولى، 2019، ص 55-56.
احسنت جزاك الله خيرا
بارك الله فيك على الموضوع القيم والمميز وفي انتظار جديدك الأروع والمميز لك مني أجمل التحيات وكل التوفيق لك يا رب
واصل
مقال أكاديمي مفصل، جزاك الله خيرا ووفقك، بفعلك هذا لقد أديت واجبا كفائيا ونبت عن المغاربة في مهمة الدفاع عن الثوابت الوطنية الجامعة.
فليكن مداد قلمك سيالا، حتى تغرق الناس في علمك.