تعتبر الحرية جوهر إنسانية الإنسان في المنظور الإسلامي، فقد أشارات نصوص الوحي والممارسة النبوية إلى الحرية بمعناها المعياري، فالحرية تعتبر مناط المسؤولية والتكليف الشرعي في الإسلام، بل يمكن اعتبار كل الديانات السماوية قد انبنت على تذكير الإنسان بكرامته الإنسانية، فالأديان في كل صورها تقف إلى جانب الأمل والإمكان والحرية والاختيار في مبدأ الأشياء [1].
بل قد جاء الإسلام بنظرية ثورية في التعامل مع الرق كعائق أمام تفعيل الحرية الإنسانية، فقد أمر النص الشرعي بالتعامل مع الأسرى بأحد وجهين إمَّا المن وإما الفداء مصداقا لقوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4]، فهاته الآية واضحة في التعامل مع أسرى الحروب فإما أن تمنوا عليهم وتطلقوهم فضلا وإحسانا ، وإما أن يؤخد منهم الفداء [2]، وذهب الإسلام أبعد من ذلك في تحقيق قيمة الحرية من خلال جعل قضية الرق مرحلة مؤقتة، باعتماد نظام المكاتبة الذي يضمن نهاية الرق في جيل واحد، بحيث يسمح للعبد بالتعاقد مع سيده للحصول على حريته مقابل أقساط مالية يدفعها إليه، ويصبح العبد حرا بمجرد إبرام العقد، وحتى لو عجز عن السداد فلا يفقد حريته، بل يبقى مدينا وعلى سيده إمهاله الى حين ميسرة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، فالآية تضم أمرين ينص الأول على قبول عقد الحرية من السادة لعبيدهم الراغبين في ذلك، والثاني يلزم المجتمع بالمساهمة المادية في عملية التحرير إذا عجز المدين عن الدفع.
لقد جعل الإسلام حرية العبد بيده حين ألزم ملاك العبيد بالمكاتبة في أمر صريح لا لبس فيه، وقد عرف عن عمر أنه كان يضرب السادة الذين يرفضون الدخول في عقد مكاتبة مع عبيدهم، فعن أنس رضي الله عنه قال أرادني سيرين على المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له، فأقبل علي عمر بالدرة فقال كَاتِبْهُ [3]، وإن كانت الممارسة التاريخية للمسلمين لاحقا سارت عكس هذا الاتجاه فإن التاريخ ليس حجة على النص، بل العكس هو الصحيح، وهو ما نبه إليه ابن حزم فقال: فهذا عمر وعثمان يَرَيانها واجبة، ويجبِر عمر عليها ويضرب في الامتناع عن ذلك ….. وخالف في ذلك الحنفيون والمالكيون والشافعيون فقالوا ليست بواجبة، وموَهوا في ذلك بتشغيبات [4].
وتتجلى الحرية السياسية في أغلب أمهات القيم السياسية الإسلامية، بحيث نجد النموذج النبوي يتسم بمرونة كبيرة في التعامل مع أفراد الأمة الإسلامية، في نظام لامركزي يستوعب القبائل العربية ويسمح لها بمساحة كبيرة من الحرية السياسية ما يجعل الدولة الإسلامية الوليدة قريبة إلى كونفدرالية من القبائل والأقوام تجمع بينها وحدة الرسالة، بحيث نحى النبي توجها للمركزية الجبرية التي كانت منتشرة في الإمبراطوريات المحيطة بجزيرة العرب، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يُثَرِّبُ على النظام الجبائي الظالم من مثل قوله: لا يدخل الجنة صاحب مُكْسٍ [5].
فالدولة في المنظور النبوي إطارٌ مرنٌ يتحرك داخله الأفراد بكل مرونة وحرية، فالنموذج الإسلامي يرسم دولة الحد الأدنى مع العناية بالعدالة، فنحن هنا بصدد دولة محدودة مع إدارة سياسية سمِحة تتجنب التدخل في حياة الناس الخاصة إلاَّ بمقتضى المَنفعة العامة والتضامن الاجتماعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : محمد عبد الله دراز، الدين، بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1990، ص 43.
[2] : محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم، تفسير المنار، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990، 5/ ص9.
[3] : البيهقي، السنن الكبرى، بيروت، دار الكتب العلمية، 2003، 10/ ص 538، وصححه الألباني في إرواء الغليل.
[4] : علي بن أحمد بن حزم، المحلى بالآثار، بيروت، دار الفكر، 8/ ص281.
[5] : سنن أبي داود، 4/ ص 562، وقال شعيب الأرنؤوط حسن لغيره.